مَقـــالْ / د.محمد احمد الشحاتي
يتعرض الاقتصاد إلى ظواهر متعددة تنعكس على مستوى حياة الافراد، وتختلف هذه الظواهر بطبيعة مسبباتها، فحيناً يمر الاقتصاد آليا بما يسمى بدورات الاعمال Business Cycles والتي في الغالب ما تنتج من تغير سلوك المستهلكين وشدة المنافسة بين العارضين وتأثيرهما على التوازن العام للعرض والطلب الكلي، وأحيانا أخرى يقع الاقتصاد ضحية أخطاء بشرية في السياسات أو العقائد قد تقود إلى أزمات على مستوى استقرار الإنتاج أو العرض ما يؤدي إلى انهيارات متتالية في الهيكل والبنية الاقتصادية للمجتمع، ومن نواحي أخرى قد يتعرض الاقتصاد إلى حوادث فجائية تأتي مع حدوث الكوارث الطبيعية أو انتشار الأوبئة أو اندلاع الحروب.
في الازمات الاقتصادية “غير الفجائية” تكون آليات الخروج عادة أسهل في التوقع حيث إن الآلة الإنتاجية للمجتمع تظل إلى حد كبير سليمة وقابلة للتشغيل للحد الأقصى بمجرد إزالة مسببات التعثر وهذا يعني أن النجاح في إصلاح العطب الذي حدث في ميكانيكية الطلب ستؤدي إلى تحفيز عودة الإنتاج بصورة منتظمة. الخبرة في قياس مدة الدورة الاقتصادية الكلاسيكية وحجمها ساعد الصناعيون ومديري الأعمال أن يطوروا استراتيجيات تفاعلية كفؤة مع فترات الركود أو حتى التضخم بمساعدة السلطات النقدية.
إضافة إلى هذا فأن تنوع الأسواق وكبر حجمها نتيجة العولمة الاقتصادية ساعدت الاقتصادات الصناعية والاقتصادات الناشئة على السواء على التغلب على مشكلة “عنق الزجاجة” في سلاسل العرض العالمية. تاريخيا عنق الزجاجة في سلاسل العرض مشكلة عانت منها الاقتصاديات المنغلقة نتيجة تكلفة التخزين العالية والتي تأتي من ارتفاع التلفيات وزيادة تكاليف الحفظ لطول المدة وارتفاع تكاليف النقل. لم تسبب أزمات عالمية كبيرة مثل أزمة الرهن العقاري في 2008 وأزمات ارتفاع أسعار السلع وخصوصا النفط في بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة إغلاقات في نظم التزويد وسلاسل العرض وبالتالي كان التضخم أغلب الوقت تحت التحكم بالرغم من سياسات التسهيل الكمي الكريمة التي اتبعتها الدول الصناعية وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
أما في الازمات “الفجائية” فأن الكثير من المسلمات التي ناقشناها أعلاه تتعرض إلى تحدي كبير نتيجة فشل الإدارة لترتيب الخروج الآمن بعد الأزمة. هناك نوعان من الازمات الفجائية الأولى هي تلك التي تحدث ضررا بالغا بالآليات الإنتاجية في المجتمع مثل تلك التي تنتج عن الحروب أو الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات، هذا النوع من الازمة الفجائية سيتتبع فرض سياسات داعمة تقوم على التدخل الحكومي أما المحلي أو الدولي لرتق الاضرار التي أصابت الآليات الإنتاجية وسيتطلب الخروج من الأزمة وقت طويلا يتطلبه إعادة التكيف مع الظروف اللاحقة، والنوع الثاني من الازمات الفجائية هي تلك التي لا تصيب الآلة الإنتاجية بعطب كبير ومن أوضح الأمثلة لهذه الازمات هي أنتشار الأوبئة. الأزمة الحالية التي يعيشها العالم متأثرا بجائحة كورونا وتأثير السياسات الاحترازية بغلق النشاطات الاقتصادية كان لها تأثير سلبي قوي على اتزان سلاسل العرض عبر العالم كما عبر الاقتصادات المحلية.
يرجع الكثير من الاقتصاديين سبب ارتفاع التضخم في الدول الصناعية ليس إلى الخلل في النظم الإنتاجية بقدر ما يرجعونه إلى التعثر الجسيم في سلاسل العرض المحلية أو الدولية. ويمكن القول بأنه من ناحية محلية فأن التعثر في عمليات تنقل الافراد سواء داخل الدولة أم من خارجها أخل بمرونة العرض من العمالة الكفؤة التي تحقق سلاسة في تدفق السلع والخدمات بدون تكدسها في “عنق الزجاجة”، ومن المتوقع أن يأخذ هذا الوضع وقتا أطول من المتوقع ليتم تعديله ليتناسب مع الظروف الجديدة. وبالرغم من سلامة الآليات الإنتاجية كما ذكرنا سابقا في مثل هذه الازمة ألا أن مرونة هذه الآليات في الإيفاء بحجم الطلب من ناحية التوقيت تظل ضعيفة مسببة نوعا من التخلف الذي يضغط على الأسعار رافعا معدلات التضخم. أما من ناحية دولية فأن تحريك الحجم الكبير من المخزونات المتخلفة عن التسليم عبر الحدود أو عبر البحار يتطلب مضاعفة توظيف كميات أكبر من الطاقة والتي يمكن ألا تكون جاهزة في وقت قصير لأسباب متعددة، هذا سيضع عبئا إضافيا على منتجي الطاقة وكذلك مديري اللوجستيات لاختيار الطريق الأقصر والتحميل المناسب وفقا لأوليات كل سوق على حدة من الاسواق الدولية. لسوء الحظ فأن هذا يأتي في وقت تشدد فيه المنافسة التجارية العالمية بين الدول الصناعية وتنتقل إلى منافسة سياسية حادة على الصدارة وتعود فيها بقوة أساليب احتكار التكنولوجيا ومنع نقلها إلى الدول الأقل نموا خشية استعمالها في المنافسة.
في ظل هذا الارتباك الاقتصادي الدولي الذي يتوقع أن يستمر لفترة من الزمن على المدى المتوسط وعدم انتظام سلاسل العرض فأن الاقتصاد الليبي مرشح بقوة للتعرض لآثار سلبية جسيمة من أهمها موجات التضخم العاتية التي ستأتي مع اعتماد الدولة على الاستيراد في معظم حاجاتها بدءا من المواد الغذائية. قد يكون هناك بعض التخفيف حيث قد يكتسب النفط قيم إضافية نتيجة اختلال سلسلة العرض النفطي أيضا ألا أن معظم المكاسب التي سيحققها ذلك ستذهب لتقابل موجات التضخم. هذا يستدعي سياسات علمية مدروسة فيما يتعلق بكيفية حل المسائل اللوجستية بين ليبيا ومصادر التوريد العالمية من ناحية وضمان حرية حركتها وكذلك تصميم سياسة نقدية مرنة للتحكم في سلوكيات المستهلك الليبي تتركز على ضبط سعر الصرف وقيمة الفائدة بحيث تسمح بدفع تنمية الآلة الإنتاجية المحلية لتحل سريعا محل الواردات الممكن انتاجها محليا خصوصا في قطاع الزراعة والاغذية، هذه السياسة يجب أن يساندها تدخل حكومي لحماية الإنتاج المحلي والحد من منافسته.