د.سليمان الشحومي
تعرف العديد من ادبيات علم الاقتصاد الشعبوية الاقتصادية بانها منهج لادارة الاقتصاد ترتكز علي محاولة الدفع بمعدلات النمو الاقتصادي واعادة توزيع الدخل ولا تعطي اهمية لمخاطر التضخم و تمويل الميزانية بالعجز بشكل مستمر و تقلل من اهمية تفاعل آليات السوق المعروفة باقتصاد السوق، و واقعيا الاقتصاد الشعبوي ظهر بقوة في دول امريكيا اللاتينية في كل من البيرو و الارجنتين و شيلي ، وتكون البداية للتوجه نحو الاقتصاد الشعبوي عندما يعاني الاقتصاد المحلي خللا ظاهرا ينعكس علي حياة الفئات الضعيفة بسبب تزايد البطالة و ارتفاع التضخم و انهيار قيمة العملة وعندها يبدأ ضغط سياسي كبير بضرورة ان يتولي زمام الامور فريق سياسي جديد مستخدما النمط الشعبوي في الاقتصاد والذي يحاول ان يدفع بالنمو عبر زيادة التازيم للاقتصاد ، فيقود الاقتصاد و البلاد الي مزيد من الازمات برفع التضخم والتورط في سلسلة من الديون المتفاقمة و المتراكمة محليا و دوليا مما يصعب معها الخروج من هذه الدوامة الشعبوية و التي تنعكس بقوة في عدم عدالة توزيع الدخل برغم ان الشعبوية تقوم علي مطالبات باعادة توزيع الدخل بين الاغنياء و الفقراء .
الشعبوية الاقتصادية تمر بثلاث مراحل اساسية ، المرحلة الاولي اعادة تدوير و تنشيط النشاط الاقتصادي، و المرحلة الثانية اعادة توزيع الدخل عبر آليات الموازنة العامة، و المرحلة الثالثة اعادة هيكلة الاقتصاد ، المرحلة الاولي تبداء عندما يتم رسم و تنفيذ سياسات اقتصادية تعمل علي تحقيق نمو و ترفع من فرص العمل و تستوعب اكبر قدر من البطالة المنتشرة ويتم فيها غض الطرف عن التضخم و يزداد العجز في الميزانية الي درجة فقدان السيطرة و لا تستطيع الحكومة ان تتحكم في النظام الضريبي بسبب ما قد يسببه من تأثيرات علي الدخول و في المرحلة الثانية تحاول الحكومة التحكم في الاسعار بسبب ارتفاعها و انهيار قيمة العملة و في المرحلة الثالثة يؤدي تراكم المشاكل و الصعوبات الي فقدان الثقة بالاقتصاد و تجري عمليات هروب الاموال من البنوك المحلية و هروب رؤس الاموال خارج البلاد خوفا علي انهيار قيمة الارصدة و سيطرة السوق الموازي للعملة الاجنبية بسبب نقص الاحتياطيات منها .
وبعد هذه المراحل من دورة الشعبوية الاقتصادية يحدث الانفجار و تأتي حكومة جديدة وتطلب مساعدة صندوق النقد الدولي لعلاج تشوهات الاقتصاد بسبب ان دخل الفرد اصبح اقل مما كان عليه في المرحلة الاولي وهنا تكون عملية اعادة هيكلة الاقتصاد و التي هي مثل جراحة القلب المفتوح تستلزم دما و جهد و ساعات من الامل و الرجاء، و السبب هو ان الاموال تتحرك بسرعة و تختفي مثل الدم في العروق ولكن المواطن العامل يبقي في وطنه مصابا بهلع الازمات الاقتصادية المتلاحقة وسيطالب بشكل سلمي او عنيف بتحسين مستوي معيشته التي اهلكها التضخم و فقدان العملة و نار الاسعار و ضعف خدمات الحكومة الاساسية وخصوصا مع تلاشي او تراجع برامج الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة بالمجتمع.
الشعبوية الاقتصادية اخذت في انتقال عدواها الي الاقتصاديات النفطية كالجزائر و ايران و فنزويلا، و اخيرا حتي دول الخليج اصبحت تعصف بها الشعبوية بسبب التاثير الحاد في الايرادات النفطية بشكل مستمر لسنوات علي هيكل الميزانية العامة و صعوبات تنويع الاقتصاد ، و تأخذ الشعبوية الاقتصادية مسارا خادعا في الدول النفطية و التي يتركز فيها الدخل في ايرادات النفط بسبب الاعتقاد بتوفر الاحتياطيات من العملة الاجنبية و التي يمكن استخدامها لاعادة تقييم العملة و مجابهة الدين الحكومي المحلي ولكنها تسقط بسهولة في فخ التضخم و الركود التضخمي و حتما اذا استخدمت الشعبوية الاقتصادية لحل الازمات سيدخل ذلك البلاد في نفق من الدورات المتتالية من الشعبوية و اثارها المدمرة ، لذلك فان السيطرة علي التضخم و معدل البطالة و الحفاظ علي القوة الشرائية للعملة المحلية هي التحدي الاكبر امام اي اقتصاد لا يقوم علي اسس سليمة و قواعد واضحة في العلاقة بين جميع الاطراف و يتقوقع تحت عبائة القطاع الوحيد المسيطر .
في بلادنا ليبيا ، الشعبوية الاقتصادية اصبحت هي الوصف الاقرب لما يحدث خصوصا في ظل انعدام تخطيط اقتصادي يعمل علي اعادة هيكلة الاقتصاد و يهدف لتنويعه و يبتعد عن تطبيقات الشعبوية عبر الدفع بفاتورة المرتبات لاعلي مستوي ممكن كحل تقدم عليه الادارة السياسية او عبر توزيع جزء من احتياطيات النقد الاجنبي بحجة توزيع الثروة و ازدهار السوق الموازي للعملة بسبب نقص المعروض من العملة الاجنبية مما يلقي بضلال وخيمة علي استشراء الفساد وتراكم الثروات خارج القنوات الرسمية و المنظمة بالاقتصاد مما يغير من قواعد ادارة الاقتصاد نحو فقدان السيطرة المطلقة.
الشعبوية بالاقتصاد كشعار براق يستخدم للوصول للسلطة السياسية بهدف تحقيق العدالة في توزيع الدخل و لكنها تفشل و تعطي صورة مزيفة عن حالة الاقتصاد و الاستمرار في نهجها باعتبارها شعار يستخدمه ويقبل عليه الساسة الجدد في بلدان تعاني صعوبات اقتصادية بهدف الوصول او الاستمرار في المواقع الحكومية قد يكون اكثر قسوة علي الاقتصاد الوطني علي المدي البعيد .
ليبيا كاقتصاد اعتمد كثيرا علي الشعبوية سابقا و حاليا كمنهج لحل الازمات دون الالتفات الي اعادة صياغة رؤية اقتصادية شاملة تعيد بناء هيكل اقتصادي يتعاطي مع الازمات بعقلانية و يبتعد عن الدور الشعبوي الاقتصادي