إمكانية خصخصة جزء من شبكة أنابيب نقل النفط والغاز في ليبيا كحل جزئي للمختنقات التشغيلية والتمويلية للصناعة النفطية

مَـــقالْ / د.محمد أحمد الشحاتي

الصدامات الإعلامية الأخيرة للقطاع النفطي مدعاة للأسف حقيقة، ولكن ما رشح عن بعضها فيما يتعلق بالصعوبات التي تواجها الصناعة في قطاعي التمويل واللوجستيات هو أمر بالغ الخطورة والأهمية، أكثر من مرارة الصدامات نفسها. مقالات سابقة كنت قد ناقشت الأثر السلبي لانخفاض الصرف الرأسمالي والتشغيلي على قطاع النفط، وها نحن اليوم نسمع من أكثر من مصدر تأكيد لهذا الأثر والذي في الحقيقة يتجاوز الشخصنة ولا يصيب الصناعة فحسب في مقتل، بل يتجاوزها للأضرار بالاقتصاد الوطني والبيئة الطبيعية والموارد البشرية العاملة في القطاع.


في رأيي الخاص أن الصدام الحادث اليوم في حد ذاته لن يكون له أثر مباشر له على الإنتاج حيث إنه في اثناء تبادل الاتهامات في العاصمة، يقوم ثلة من المهندسين والفنيين المحترفين في الحقول النفطية الليبية من “منكري الذات” بعمل متميز في الحفاظ على الموارد النفطية بفعل الالتزام الوطني أولا وأخيرا في ظل ظروف عمل صعبة للغاية. حقيقة فأن ما سيؤثر على الإنتاج سلبا هو المختنق التمويلي واللوجيستي الذي فقدت الإدارة الليبية قدرتها على تصور حل عملي له. وفقا للتصريحات العلنية سيكون هناك مشكلة في الحفاظ على مستويات إنتاج النفط بسبب تهالك البنية التحتية وخصوصا سلامة شبكة الانابيب وسيكون هناك مشكلة في إنتاج الغاز الطبيعي بسبب تآكل الاحتياطات وعدم اكتشاف إمكانيات إنتاجية جديدة.

وفي ظل تمسك الحكومة بعدم زيادة التمويل للقطاع النفطي في الميزانية العامة فهناك خيارين أثنين لا ثالث لهما: الأول هو زيادة حصة الشريك الأجنبي لتغطية العجز التمويلي والثاني هو تخفيض الإنتاج لتقليل التكلفة وعدم الاضرار بالبنية التحتية. وبهدف الحفاظ على مستوى الإنتاج وعدم التفريط في الحصة الوطنية فأني أدعو في هذا المقال إلى دراسة خيار خصخصة جزء من شبكة أنابيب نقل النفط والغاز كمورد تمويلي رأسمالي للقطاع وفي نفس الوقت كحل لرفع كفاءة التشغيل وتقليل كلفته.
وفقا للنتائج المعروضة في تقرير ديوان المحاسبة 2020 فأن قطاع النفط فشل في تنفيذ البرنامج التنموي في قطاع النفط بالرغم من صرف 5 مليار دينار ليبي “بغض النظر عن أسباب هذا الفشل والذي قد تكون بفعل عوامل خارجة عن سيطرة القطاع”. البرنامج التنموي كان يهدف إلى رفع الطاقة الإنتاجية لليبيا إلى 2.5 مليون برميل يوميا وقد خصص له 9 مليار دينار تم توفيرها من مجموعة مؤسسات مالية محلية. نظريا فأن هذا عبأ مالي على القطاع بسبب تجمد القدرة الإنتاجية وربما تراجعها عن مستويات سنة 2010.
اليوم هناك تصريحات واضحة بأن البنية الأساسية للصناعة النفطية متهالكة نتيجة عدم الصرف عليها خلال الفترة الماضية وأنه بالتحديد هناك مشاكل في شبكة الانابيب. تحتاج المؤسسة الوطنية للنفط وفقا لحساباتي اعتمادا على مصادر عالمية إلى 15 مليار دينار سنويا (بافتراض سعر تحويل الدينار 4.5 للدولار) لتغطية تكاليف الإنتاج لمستوى 1.2 مليون برميل يوميا. ووفقا لنظام اتفاقيات المشاركة في الإنتاج “إبسا” يمكن أن توفر الشركات الأجنبية تقريبا لشركات التشغيل مبلغ مليار دولار سنويا إذا ما تم احتساب نسبة المشاركة في حدود 30% من الإنتاج أو ما يعادل 4.5 مليار دينار سنويا. بذلك تحتاج المؤسسة نظريا إلى 10.5 مليار دينار تقريبا لتغطية تكاليف الإنتاج يفترض تمويلها من عائدات بيع النفط. واقعيا فأن الحكومة الليبية تقترح تزويد قطاع النفط سنويا وفقا للميزانية المقترحة بمعدل 7 مليار دينار وهذا يعني عجز بقيمة 3.5 مليار دينار. هذا العجز سينعكس في تصاعد نسبة الاهلاك في البنية التحتية وتسارع الانحدار في انتاج الغاز الطبيعي وهو ما سيؤثر سلبا على الإنتاج وسيضع أعباء مالية كبيرة على المؤسسة الوطنية للنفط مما يتوقع أن يجعلها عاجزة بصورة كبيرة.
لا بد طبعا من الإشارة هنا أن المؤسسة نفسها وشركاتها من زاوية “الرؤية الاستثمارية” غير منضبطة في الصرف كما نوهت أعلاه بإشارة تقرير ديوان المحاسبة عن الفشل في البرنامج التنموي 2010. المجتمع الاستثماري سواء المحلي أم الخارجي سيتردد كثيرا في المخاطرة بالاستثمار في قطاع النفط الليبي بتسليم التمويل للمؤسسة بدون وسيط محايد نتيجة لظواهر كثيرة من عدم الكفاءة كالزيادة المفرطة في التوظيف، دعم المحروقات، عدم تطبيق المعايير الدولية في التقارير المالية، وغيرها. يكفي القول إن معدل الخصم المتداول دوليا بين البنوك الاستثمارية الدولية للمشاركة في القطاع النفطي في ليبيا يصل إلى (- 18%) وهو رقم مرتفع جدا يمنع تدفق الكثير من الاستثمار الأجنبي المباشر نحو الصناعة النفطية.
يبدو هنا أن حل الخصخصة الجزئي في قطاع الخدمات النفطية مناسب لتطوير نموذج أعمال يعتمد على تشجيع التمويل الخاص مع الاحتفاظ بالتحكم السيادي على المورد النفطي. أجادل هنا إن المؤسسة الوطنية للنفط باستطاعتها أن توفر من السوق تمويلا يصل إلى 2 مليار دولار وذلك بخصخصتها ما معدله 50% من شبكة أنابيب نقل النفط الخام. هنا يجب أن نتخذ الحذر في عدم تكرار أخطاء الخصخصة سواء على المستوى الدولي أو المستوى المحلي. المحذور الأول هو عدم استبدال احتكار عام باحتكار خاص ما يؤدي إلى استنساخ العيوب المتمثلة في عدم الكفاءة وهدر الموارد، فخصخصة جزء من الشبكة التي تملكها المؤسسة يجب أن يعني تلقائيا فتح باب المنافسة في هذا المجال، المحذور الثاني هو عدم تقييم الأصل بصورة دقيقة ومستمدة من آليات السوق وهو ما يعني منح أقلية ميزة اقتصادية لتوليد فائض في الثروة نتيجة ضعف تقييم الأصل العام محاسبيا. هذه الأخطاء وقع فيها الكثير من الدول النامية لدى قيامهم بعمليات الخصخصة وأنتجت على أثر ذلك نظاما اقتصاديا مشوها أضر بمفهوم الخصخصة والقطاع الخاص في هذه الدول. التجربة الليبية في خصخصة أجزاء من قطاع النفط خصخصة نشاط التوزيع والبيع بالمفرق من شركة البريقة لتسويق النفط وخصخصة مصفاة رأس لانوف ومعمل اليوريا في مرسى البريقة، كانت تجربة متعثرة للأسباب التي تم توضيحها أعلاه وتحديدا عدم تشريع المنافسة الكاملة وضعف تقييم الأصول والاعتماد إلى حد كبير على القيم الدفترية لها.
فرضيات المقترح هنا المتعلق بخصخصة جزء من شبكة الأنابيب هو أن التقييم سيعتمد آليات السوق ليعطيها القيمة المناسبة لبيعها للقطاع الخاص، وكما هو موضح في الجدول فأن الشبكة تبلغ 1700 كيلومتر تقريبيا هي مجموع لأربع منظومات رئيسية هي السرير، الواحة، الشرارة، الزويتينة. وهنا لا تدخل شبكة نقل الغاز الطبيعي في الحساب. ويمكن تقييم شبكة نقل النفط الخام بآليات السوق بافتراض تكلفة انشاء شبكة جديدة بديلة تكلف في المتوسط 2.4 مليون دولار للكيلومتر الواحد أي ما مجمله 4.08 مليار دولار. بيع 50% من أسهم قيمة الأصول يبلغ 2.04 مليار دولار. يجب ملاحظة أن القيمة الدفترية لشبكة الأنابيب ستكون أقل بكثير من هذا الرقم حيث إنه قد تم بناؤها في مراحل تاريخية سابقة كانت فيها التكلفة أقل بكثير، فعلى سبيل المثال فأن تكلفة الانشاء كانت في 2005 تقدر بمليون واحد دولار للكيلومتر. لا بد من التشديد ان الأرقام الواردة في المقال هي متوسطات وتحتاج الى الكثير من الضبط، ولكنها تعطي اتجاهات عامة يمكن دراستها بأكثر دقة.
المشروع جذاب للقطاع الخاص المحلي والعالمي على السواء للأسباب اللاحقة.
فعلى افتراض:
أولا: تطبيق تعرفة نقل تساوي 0.004 دولار عن نقل برميل النفط كيلومتر واحد وهي تعرفة مقبولة على المستوى الدولي، وبناء عليه فأن الدخل السنوي المتوقع من اجمالي الشبكات سيصل إلى 890 مليون دولار.
ثانيا: تكلفة التشغيل والصيانة تصل إلى 0.80 دولار للبرميل أي بمبلغ اجمالي قدره 438 مليون دولار سنويا هذا يعني ربحا تشغيلي قبل الضرائب قدره 452 مليون دولار وهو ما يشكل نسبة 51%. هنا قد يجادل الكثير أن نسبة الربحية المرتفعة يجب أن تكون حافزا لزيادة تقييم الأصل من الأساس حيث يجب ألا تزيد نسبة الربحية عن 20%.
هذا سيقود إلى النتائج التالية:
أولا: هذا سيجعل المستثمر يسترد قيمة الاستثمار في 4.5 سنوات تقريبا، بدون توزيع أرباح، ويمكن أن يتم بداية توزيع أرباح من السنة الثانية بمتوسط 500 مليون دولار على المستثمرين لتشجيعهم على الاستثمار، ولكن هذا سيؤخر استرداد قيمة الاستثمار لسنتان تقريبا.
ثانيا: الأرباح تقسم بين المستثمر والمؤسسة الوطنية للنفط التي تعيد استثمارها في رفع الإنتاج النفطي بالإضافة إلى القيمة الاصلية لعملية الخصخصة.
ثالثا: قيام القطاع الخاص بإدارة شبكات النقل سيحسن من أدائها التشغيلي وسيخفض من التكلفة ويمكن للدولة أن تفرض شروطا بيئية قاسية عليه لمنع التسريبات والاضرار بالبيئة.
رابعا: ستخلق هذه الفرصة فرص عمل جديدة وستشجع القطاع الخاص على الاستثمار على المدى الطويل في الصناعة، وعلى الدولة أن توجه مثل هذه النشاطات إلى مناطق الإنتاج والعبور للنفط وجعل مقرات التشغيل الفني والتجاري من هذه المناطق، وذلك عن طريق الحوافز الضريبية والتشريعية.
ان التفكير خارج الصندوق وتطوير نماذج اعمال متطورة هو الذي سيدفع إلى تجاوز المختنقات التي تواجه الصناعة أكثر من المواجهات وقد يكون هذا التوجه جزء من حلول كثيرة يمكن اتباعها. الامر الضروري هو تغيير التفكير والاستعداد لمرحلة جديدة من نماذج العمل التي يتكامل فيها القطاع العام مع القطاع الخاص. أن وجود طرف ثالث محايد بين المستثمر والمؤسسة الوطنية للنفط مثل سوق الأوراق المالية سيكون حاسما في نجاح مثل هذه التوجهات.

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

القائمة