مَــقالْ / د. محمد أحمد الشحاتي
في هذا الجزء الثاني سنواصل مناقشة المحاور التالية
اصلاح التمويل الاستثماري العام والخاص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يفترض في العادة أن الاستثمار يتم تحفيزه عن طريق آليات السوق بحيث يقوم المستثمرون تلقائيا بتنفيذ المشاريع التي تلبي الطلب المحلي من السلع أو الخدمات. من ضمن هذه الآليات عملية التقليد بحيث يقوم المستثمر بتقليد أي مشروع ناجح عن طريق النسخ وهي عملية لا تقتصر على سوقنا المحلي الليبي فقط، بل تمتد أيضا إلى أسواق عالمية مثل الصين حين يقوم الصناعيون هناك بنسخ السلع الاستهلاكية المطورة في الغرب. وبينما قد يكون لهذه العملية بعدا تجاريا نافعا ألا أنها تحتاج إلى مرونة كبيرة لمسايرة التطورات عير المتوقعة أما في تقنية التصنيع من ناحية أو الذوق العام في السوق من ناحية أخرى.
تخصيص الموارد للاستثمار يعني قفل هذه الموارد لإنتاج سلعة أو تقديم خدمة لفترة من الزمن يتم فيها استرداد قيمة الاستثمار على الأقل. في عمليات إحلال الواردات بالإنتاج المحلي يكتشف المستثمر المحلي فجوة تكاليف بين السلعة المستوردة من الخارج وتكلفة انتاجها محليا مما قد يشجعه على الاستثمار محليا لسد حاجة السوق، ممكن مدفوعا ببعض التشريعات المساندة. الفرضية هنا أن السلعة ستكون في الطلب بنفس السعر فترة يسمح فيها للمستثمر من استرداد استثماره. هذا الامر بالطبع ووفقا للتجارب الطويلة لا يحدث بسبب سرعة تطور التقنية ومن ثم الطلب على السلعة، مما يضع المستثمر المحلي في ورطة تسويقية تنتهي عادة بخروجه من السوق بسبب المنافسة الجديدة.
المصانع والمشاريع العديدة التي تم تنفيذها في ليبيا خلال سنوات من التنمية قليل منها استطاع الخروج تجاريا من هذه الورطة التسويقية وأصبحت في النهاية اطلالا بدون أي قيمة تجارية. هذا يستدعي إعادة رسم استراتيجياتنا الاستثمارية الهادفة إلى إحلال الواردات بطريقة تتسق مع الفرص التجارية المحلية أو إمكانيات التصدير الدولية. هنا دائما ما يتم التركيز على وارداتنا من المنتجات النفطية التي تصل اليوم نتيجة قفل بعض من المصافي النفطية المحلية خصوصا رأس لانوف إلى 2.5 مليار دولار سنويا. صحيح أننا بالمقابل نصدر النفط الخام الذي لا يتم تكريره ونتجنب مصاريف التكرير العالية المحلية ألا أنه في النهاية يظهر هذا الرقم في الواردات الليبية. هناك اقتراحات استعمال المكثفات في مشروع استثماري في مركب فصل لإنتاج بنزين السيارات والذي يمكن أن يرفع الطاقة الإنتاجية المحلية للوفاء بمعدل 40% من الطلب المحلي (الحالية لا تتجاوز 15%) بتكلفة استثمارية منخفضة بدون اللجوء إلى انشاء مصفاة جديدة.
هناك أيضا اقتراحات متعددة لتطوير استراتيجيات توزيع الغاز الطبيعي والغاز المصنع على الاستعمالات المنزلية والاستعمالات الصناعية وهي مشاريع تحتاج إلى استثمارات كبيرة سواء من القطاع العام أو القطاع الخاص. التخلف الذي نشهده في هذه القطاعات المتصلة بالطاقة تؤدي إلى تعثر السياسات التنموية في العديد من المجالات الأخرى الزراعية، الرعوية، الصناعية والسياحية نتيجة عدم توفر الطاقة اللازمة للدفع بها.
المشكلة أساسا هي في توفير التمويل المناسب لإطلاق هذه المشاريع وهنا تتحمل المؤسسات المالية المسئولية مشاركة مع الجهات التخطيطية في الدولة. القصد هنا أن عامل المخاطرة المالية الكبير الذي يمنع مثلا القطاع الخاص من الاستثمار في هذه المشاريع لا ينبغي أن يكون مبررا للتراجع الحاصل. كنت قد شاركت في بعض النقاشات حول موضوع تولي القطاع الخاص لمشاريع متصلة بمجال الطاقة وقد كان المانع دائما هو الحاح القطاع الخاص على توفير ضمانات حكومية في حال فشل المشروع مثل تثبيت الأسعار أو تنفيذ سياسات حمائية، وهذا بالطبيعة طلب غير منطقي نظرا لحجم التزامات الحكومة في مجالات أخرى منها الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية. إذا ما استطاعت الحكومة توفير هذه الضمانات فسيكون التحرك المنطقي هو أن تقوم الحكومة نفسها بالاستثمار في هذه المجالات على الأقل سيمكنها ذلك من تنفيذ سياساتها المخططة بدون شريك مزعج.
ما ينطبق على قطاع الطاقة سينطبق كذلك على قطاعات الصيد البحري والزراعة والسياحة بنسب متفاوتة. العمل مثلا في قطاع السياحة يحتاج إلى بناء سلاسل قيمة تبدأ من قطاع الطيران والمواصلات ولا تنتهي بقطاعات الخدمات والفندقة والتموين. لو دققنا في سلاسل القيمة هذه سنكتشف الكثير من الفجوات والثغرات التي يمكن ملئها بسهولة عن طريق الاستثمارات لتقديم خدمة سياحية راقية سواء الداخلية أو الخارجية ألا أن مشكلة التمويل الاستثماري وعامل المخاطرة يبقي هذا القطاع متخلفا بالرغم من أهميته في الاقتصاد الوطني.
اصلاح السياسات النقدية وسعر الصرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا بيت القصيد. لا يمكن أن نتحرك قدما في ظل الضبابية التي نعيشها في هذا الجانب المظلم تماما. أحيانا يكون الجدل بطريقة أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة، الابتداء بإصلاح السياسات النقدية وسعر الصرف أم الابتداء بإصلاح السياسات التجارية قبل. شخصيا أنا مع الرأي الأول الذي يقول إنه بدون اصلاح السياسات النقدية وسعر الصرف لا يمكن لأي سياسة اصلاح تجارية أن تأخذ طريقها. هنا لن أناقش كيف يمكن اصلاح السياسات النقدية لأنه مبحث منفصل طويل ومعقد، ولكني سوف أركز على المتطلبات الأساسية التي ينبغي توفرها في السياسات النقدية لتفعيل اصلاح ناجح في السياسة التجارية.
المتطلب الأول هو وضوح القيمة الزمنية للعملة المحلية، وبدون وجود سعر فائدة رسمي من الدولة فأن ذلك يستحيل حدوثه. الدينار اليوم لا يساوي دينار سنة 2025 أو دينار سنة 2030، والافتراضات حول القيمة بدون التزام حكومي ضرب من الخيال. المؤسسة النقدية ملزومة بتوفير المعيار البديل في ظل غياب الآلية المعروفة للحسبة، فطبيعيا أن لم تقدم المؤسسة النقدية هذا المعيار فأن النظر سيتجه تلقائيا إلى معيار التضخم الذي يعتبر معيارا عشوائيا ضارا في التوقعات الخاصة بالاستثمار. التوقعات المرتفعة للتضخم تؤدي إلى هروب الاستثمارات والاحتفاظ بالسيولة خارج النظام المصرفي هذه تلقائية لا يمكن تجنبها بالتمسك بمبادئ غير اقتصادية. من ناحية تجارية هنا فأن التبادل التجاري سيتم تضييقه إلى أقل حد ممكن ليوائم قصر فترة التوقع وبذا ستسقط السلع والخدمات ذات الاجل الطويل من العرض والتي توفر حقيقة استقرار نسبي للأسواق. مثلا يمكن لأي مستعمل اليوم أن يحجز تذكرة سفر على بعض الخطوط لمدة سنة قادمة بسعر سيكون أقل بكثير من التذكرة التي يود أن يحجزها غدا. عرض تذكرة بهذه الفترة الطويلة ليس عشوائيا، بل يرتكز على عدة حسابات مؤكدة عن القيمة الزمنية لمبلغ التذكرة المدعوم من قبل السلطات النقدية بإعلانها سعر للفائدة وليس توقع تضخم. بصورة مبسطة هنا فأن الخطوط الليبية أو الافريقية لا يمكن لها أن تبيع تذكرة “مؤكدة الثمن” بعد سنة من الآن سواء في مكاتبها أو على الانترنت بدون هذا المتطلب وقس على ذلك الأنشطة الأخرى. في ظل هذه الوضعية النقدية فأن العمليات التجارية ستبقى في نطاق زمني قصير جدا وسيكون متأثرا بشدة بالتقلب الكبير في السعر.
المتطلب الثاني هو وضوح وشفافية سياسة سعر الصرف. هنا لا يهم هل تتجه هذه السياسة أما للتعويم الكامل أو إلى الاستمرار بنظام تثبيت سعر الدينار. ما يحدث اليوم هو ضرب من الفوضى والعشوائية لا يمكن لأي سياسة تجارية أن يتم رسمها في ظله. فبينما يغيب عامل سعر الفائدة كقيد من السياسة النقدية على صانع القرار فأن قرار معدل سعر الصرف يبقى وفقا للأهواء الشخصية والسياسية. لا يمكن للعمليات التجارية أن تتم بشكل صحيح والسياسة النقدية وسعر الصرف هما تحت التقدير الشخصي وليس الآليات السوقية. لا يمتلك محافظ المركزي في السعودية أو في إيران حرية تحديد السياسة النقدية بالشكل الذي نتبعه في ليبيا. القاعدة أن المحافظ لا يمكنه رفع قيمة سعر صرف العملة المحلية أو تثبيتها بدون أن يقوم برفع سعر الفائدة أو تثبيته الذي بدوره له آثار اقتصادية وتجارية على الاقتصاد الوطني. التوازن هنا بين القيمة الزمنية الحالية والمستقبلية للعملة المحلية هي مسؤولية المصرف المركزي، فقيمة منخفضة ستعني ربما تشجيع على الإنتاج المحلي، ولكنها في نفس الوقت تعني تضخم مستورد مرتفع والعكس صحيح. هذه المعادلة بالذات غائبة تماما في وضعنا الليبي ويعتمد صناع القرار على ما يتم توريده من مبيعات النفط كعنصر وحيد لتقرير سياساتهم النقدية. المسألة هنا ترجمتها تجاريا واضح تماما، سعر نفط مرتفع يعني واردات أكثر بالتالي تأثير أقل من التضخم المستورد وسعر نفط منخفض يعني عرض نقود أكثر بدون تغطية وواردات عن طريق السوق السوداء وتضخم مستفحل.
اصلاح نظام الدعم الحكومي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا أناقش هنا موضوع الدعم في حد ذاته حيث إن ذلك موضوع بحثي آخر، ولكني أحاول أن أوضح الآثار السلبية لاستمرار نظام دعم حكومي غير متوازن على السياسة التجارية للدولة. الدعم الاستهلاكي بدون شك يؤثر في عمليات الإنتاج والتوريد وبذلك يضع قيودا على عملية اصلاح السياسة التجارية.
دعم المواد الغذائية لفترة طويلة من الزمن دفع إلى تعثر القطاع الزراعي في ليبيا في الانتقال مرحلة البيع المباشر للمستهلك إلى الدخول لمرحلة التصنيع. زيت قرطاج التونسي “المدعوم في ليبيا” أزاح بيسر صناعة “زيت الزيتون” الليبية الناشئة وجعلها محصورة في نقاط معينة في المناطق الجبلية. دعم أسطوانات الغاز المنزلية بكثافة قاد إلى فقدان الاهتمام بشبكات توزيع الغاز في المدن، الدعم الكثيف لبنزين السيارات أدى إلى تلاشي الاهتمام بتطوير شبكة طيران محلية تربط المدن الليبية الرئيسية نتيجة للارتفاع النسبي لتكلفة الطيران الجوي وأدى كذلك إلى فشل الكثير من مشاريع النقل الجماعي البري بين المدن وداخل المدن كذلك.
أن نشوء وتطور صناعات معينة داخل نظام الدعم قد يرتقي إلى المستحيل ليس بوجود الدعم نفسه، بل بجمود الدعم وعدم مسايرته للتطور التقني والديموغرافي في البلد. لا أظن أن الاستمرار بنظام دعم المحروقات الحالي بنفس الكيفية يمكن أن يقود إلى أي اصلاح في السياسة التجارية لنظم توزيع وبيع المحروقات، بل سيقود إلى مزيد من المختنقات نتيجة عجز الدولة والشركات التابعة لها عن الاستثمار لحل هذه المختنقات المتصاعدة.
اصلاح النظام الجمركي والضريبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترتبط التجارة على الدوام بحجم السوق ودرجة تطوره وفي النظام الاقتصادي الحديث القائم على النظام السياسي القومي تم استعمال وسيلة التحكم في التجارة الخارجية عن طريق التعرفة الجمركية والتحكم في التجارة الداخلية عن طريق الضرائب على السلع والخدمات. وقد كانت التعرفة الجمركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية محلا للصراع السياسي فيما عرف مسبقا باتفاقية جات GATT وما تطور منها ليصبح منظمة التجارة العالمية WTO. الحرب التجارية والجمركية بالرغم من أن منظمة التجارة العالمية خففت منها كثير ألا أنها لا زالت مستمرة بطرق قانونية واجرائية عديدة هي خارج نطاق مقالنا هذا. ليبيا لا زالت خارج النظام الدولي للتعرفة الجمركية، وهذا يعطيها نوعا ما مرونة في فرض تعرفتها الجمركية المناسبة قبل أي التزام دولي.
المشكلة في الاقتصاد الليبي أن النظام الجمركي لم يكن ناجحا على الاطلاق في تحديد السوق المحلية نتيجة عوامل متداخلة منها نقص الخبرات الفنية في العمليات الجمركية، كبر مساحة البلد وجود منافذ غير مسيطر عليها تماما من الدولة، عدم التنسيق بين الأجهزة الحكومية المختلفة لتنفيذ سياسة جمركية محكمة. الحصيلة الجمركية كانت دائما أصغر بكثير من المتوقع وفقا لإحصائيات التجارة الخارجية مع العالم وفي الحقيقة تركزت على عمليات شخصية وليس على عمليات تجارية كبيرة.
مشكلة عدم وجود نظام جمركي محكم يعرض الدولة الليبية إلى تسرب البضائع الموردة إليها وفقا للأسعار الرسمية للصرف مثلا التبغ حيث إن أسعاره في الدول المجاورة أعلى بكثير من السعر الذي يتم به الاستيراد إلى ليبيا. وبينما يقوم رجال الجمارك بعمل كبير لوقف هذا التسرب ألا أن الجهود في هذا المجال ستكون أصغر بكثير من المطلوب. وهنا يمكن ان تلعب الضريبة دورا توازنيا خصوصا في بعض السلع التي يمكن رفع الضريبة عليها بسبب اضرارها بالصحة مثلا كالتدخين والمشروبات الغازية، أو استعمالاتها الفردية كسلع الترفيه والسلع الفخمة.
التخطيط التجاري والانفتاح الاقتصادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يغيب على أي شخص إن الوضع التجاري الحالي في ليبيا في منتهى السوء وأصبح للكثير كمقلب للقمامة تتكدس فيه البضائع الفاسدة وغير الموثوقة ضمن سلاسل تزويد معطوبة لا يوجد معيار عملي لقياس كفاءتها. على الرغم من المحاذير التي تناولتها أعلاه فأن ذلك لا يعفي الأجهزة المختصة من القيام بعملية تخطيط تجاري تهدف إلى تحسين الواقع التجاري بما يعمل على رفع المستوى المعيشي للفرد سواء من ناحية الجودة أم التكلفة.
اعتقد أن الخطوة الأولى في عملية التخطيط التجاري والتي يجب أن تقوم بها الأجهزة المختصة هي تسريع انضمام ليبيا إلى منظمة التجارة العالمية حيث ستعمل خطوة مثل هذه على اجبار الأجهزة الحكومية على ضبط الأداء التجاري المنفلت خصوصا بعد تخارج الدولة والقطاع العام من العمليات التجارية مما خلق فراغا كبيرا تم ملئه بأجسام تجارية عديمة الكفاءة. هذا يحقق الخطوة الثانية في التخطيط التجاري وهو الانفتاح الاقتصادي المنضبط والدخول في سلاسل تزويد ذات موثوقية بعيدا عن تلك السلاسل الهامشية. الانفتاح الاقتصادي عملية قد تكون ذات حدين متضادين، الحد الأول حد سلبي ينتج عن ارتباط ليبي مع سلاسل تزويد مشوهة تتبادل السلع والخدمات الرديئة، أما الحد الثاني المعاكس فهو حد إيجابي يتحقق فقط عندما تفرض الدولة عبر التخطيط التجاري السليم نوعية الارتباط مع سلاسل تزويد ذات موثوقية تتبادل السلع والخدمات الجيدة.
اصلاح هيكل الصادرات والواردات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك الكثير يمكن قوله هنا، ولكني أشعر أنني أطلت عليكم بما يكفي لذا سأطلب منكم مراجعة الرسم المرفق والذي يبين مقارنة بين واردات ليبيا، تونس، الكويت لبعض السلع. النتيجة النهائية التي يمكن أن تلاحظوها أن ليبيا تتميز بالتركيز على استيراد السلع الاستهلاكية بشكل مبالغ فيه. فهي الأعلى في استيراد الحيوانات الحية، اللحم والاسماك، التبغ والسكر والحلويات بينما هي الأقل في استيراد الآلات الكهربائية والتي تدخل في العمليات الإنتاجية.
الخلاصة هي أن بدون إصلاح اقتصادي شامل لن نستطيع تعديل الكثير من الاختلالات في نظامنا التجاري.
تحياتي وتقديري العالي