مَـــالْ / محمد أحمد الشحاتي
الصناعة النفطية في ليبيا من أحد أهم الصناعات التي تدعم الاقتصاد الوطني ليس كما يتداول خطأ على مستوى الريع الذي يقدمه النفط كثروة طبيعية وتتلقاه الدولة وفقا لقانون ملكية الموارد الطبيعية، بل أيضا على مستوى التحفيز الاقتصادي لقطاعات واسعة من النشاطات الاقتصادية في مجال الخدمات المرتبطة بقطاع الطاقة وقطاع تصدير المواد الهيدروكربونية. وفي العموم من الناحية التشريعية فأن الصناعة النفطية في ليبيا مسيجة بحماية قانونية وطنية محكمة منذ بدايتها وتطورها، وتقوم على مبدأ الملكية العامة وأنظمة تقاسم الإنتاج حين الحاجة ونظام ضريبي حديث ومتطور لحماية حقوق الملكية.
وسوف نتعرض فيما يلي إلى أهم المختنقات التي تهدد الصناعة النفطية في ليبيا وسنحاول أت نعرض بدائل للحلول وفقا للممكن ولتصورات التغيير في أسواق الطاقة العالمية.
1. اصلاح نموذج تمويل الصناعة النفطية
وفقا للتطور التاريخي فأن تمويل الصناعة النفطية كان يقع في أغلبه على الحكومة الليبية ونظام تقاسم الإنتاج مع الشركات العالمية التي تحمل امتيازات نفطية في ليبيا. وتقوم المؤسسة الوطنية للنفط بتمويل الشركات المملوكة لها بالكامل لتنفيذ عمليات الاستكشاف والإنتاج في مناطق معينة بعد تحويل مخصصات مالية لها من الحكومة ضمن الموازنات السنوية تحت بند التنمية. كما تقوم من جهة أخرى بتمويل حصتها في الشركات المشتركة التي تتبنى نظم مقاسمة الإنتاج.
التمويل الوطني يهدف إلى محافظة الدولة الليبية على النسب الأكبر من الإنتاج المادي وبالتالي تعظيم الأرباح للعمليات الإنتاجية. وتقوم المؤسسة أيضا بتغطية تمويل الوحدات الصناعية اللاحقة مثل مصافي التكرير ومصانع البتروكيماويات وبعض الشركات الخدمية. الاستثناء هو لبعض الشركات التجارية مثل شركة البريقة لتسويق النفط وشركة الجوف للكيماويات النفطية اللتان تقومان ببيع منتجاتهما في السوق مباشرة وبذا فأن لديهم تدفق نقدي مستقل.
الاحتياجات المتزايدة للعائدات النفطية بالتوازي مع ارتفاع كلفة انتاج البرميل والحاجة إلى التوسع في عمليات الاستكشاف أدى إلى خفض التدفق النقدي الموجه إلى المؤسسة الوطنية للنفط من الحكومة. تشير الاحصائيات الدولية المعتمدة أن المؤسسة الوطنية للنفط تصرف أقل من 25% من التكلفة الواجبة على استخراج النفط مع ارتفاع غير مبرر للصرف التشغيلي مقابل الصرف الرأسمالي. هذا الوضع قد يؤدي إلى انهيارات في النظام الإنتاجي نتيجة عدم المحافظة على الصيانة الواجبة للآبار وتسهيلات النقل والتخزين التي تقع تحت المسئولية المباشرة للمؤسسة الوطنية للنفط.
يحتاج القطاع النفطي إلى عملية سريعة لضخ الأموال لإنقاذه من التعثر المتوقع نتيجة الوضع الحالي. وتجب الإشارة إلى أن مثل هذا الوضع المتأزم تواجهه بنسب متفاوتة دول منتجة للنفط أخرى تدخل من ضمنهم المملكة العربية السعودية. النماذج التي اتبعت في الدول المنتجة للنفط للتغلب على مسألة النقص في التمويل الحكومي هي أما ببيع أسهم للشركات الوطنية للنفط في الأسواق المالية (قامت السعودية ببيع 5% من أسهم شركة أرامكو وحصلت على 10 مليار دولار في سوق المال السعودية) أو عمل اتفاقيات بين الحكومة والشركة الوطنية للنفط حول مستوى
التمويل ارتباطا مع سعر النفط، يتم فيها إلزام الشركة الوطنية بإتباع الضوابط المالية التي تمنه إهدار الموارد وفقا لخطة تنموية معتمدة من السلطة التنفيذية.
في الوضع الليبي فأن خيار التوجه إلى الأسواق المالية للحصول على جزء من التمويل غير مطروح على المدى المتوسط نظرا لضرورة تأهيل المؤسسة الوطنية للنفط في هذه الحال قبل أن يقبل المستثمرين للمخاطرة بوضع أموالهم. ألا أن عملية التأهيل نفسها يجب أن تبدأ بمجرد بدأ البرنامج الاقتصادي كأحد الخيارات المطروحة في نهاية مرحلة متوسطة. الخطة الوسيطة يجب أن تتمثل في اتفاقية تجارية بين الحكومة والمؤسسة الوطنية للنفط للتمويل التجاري وتبنى على خطة تجارية متوسطة المدى ترتبط بتوقعات العوائد النفطية التي يجب أن تذهب للمؤسسة بطريقة أتوماتيكية وبدون تدخل الدولة. في هذه الخطة يجب أن تلتزم المؤسسة باتباع الضوابط المالية التي تمنع إهدار المورد المالي مع نشرها لتقارير مالية دورية توضح فيها تنفيذ الخطة.
2. الاهتمام بصيانة البنية الأساسية للصناعة النفطية
تتكون صناعة النفط الليبية من شبكة إنتاجية متكاملة تهدف إلى توفير المنتجات النفطية إلى السوق المحلية وتصدير الفائض من النفط الخام والغاز الطبيعي إلى الأسواق الدولية. وقد تطورت هذه الشبكة على مدى ستون عاما بداية من انتاج النفط في سنة 1961 حتى اليوم. وقد بدأت هذه الشبكة بالنظام الإنتاجي الذي أقامته شركة أسو الذي يربط حقول زلطن ومرادة بميناء مرسى البريقة لتصدير النفط والغاز الطبيعي المسال إلى الخارج وتكرير نسبة بسيطة للاستهلاك المحلي في مصفاة البريقة.
تم إضافة العديد من الآبار والحقول الإنتاجية في ليبيا متضمنة تسهيلات الفصل والضخ إلى أكثر من ثمانية موانئ نفطية مجهزة لتصدير النفط والغاز والبتروكيماويات كذلك. تمت الانشاءات بتكنولوجيا عصرية ولم تشهد التجهيزات النفطية حوادث جسيمة سواء من ناحية الكوارث أو التسرب محققة أعلى درجات الأمان والسلامة الممكنة للمجتمعات المحلية.
نظرا لضعف التمويل وقلة الصيانة إضافة إلى انعدام الامن فقد تدهورت البنية الأساسية في السنوات الأخيرة بشكل كبير وأصبح من اللازم تكثيف عمليات الصيانة للمحافظة على الأداء الإنتاجي من ناحية وعدم تعريض العامة إلى المخاطر المصاحبة للصناعة بما فيها الحوادث والتسربات. كما توجد الحاجة إلى الاهتمام بالإصحاح البيئي خصوصا المناطق المنتجة للنفط التي تعاني كثيرا من ظواهر التسرب وحرق الغاز الخام وما يصاحبه ذلك من مخاطر صحية وبيئية.
في المدى المتوسط يجب إلزام الشركات النفطية الوطنية والأجنبية بتقديم برامج عمل تستهدف الاهتمام بصيانة البنية التحتية وإصلاح ما تم تدميره بفعل الصراعات بين الأطراف المختلفة. هذه البرامج يجب أن تكون مستقلة عن البرنامج الإنتاجي التقليدي ويتم منح حوافز مالية كنسب إنتاجية عن الإنجازات التي تتم في هذا الخصوص. كما يفضل أن تعتمد السلطة التنفيذية هذه البرامج بصورة سيادية مستقلة على هامش اتفاقيات تقاسم الإنتاج مع الشركات الأجنبية.
3. رفع الطاقة الإنتاجية من النفط الخام
وصلت الطاقة الإنتاجية من النفط الخام إلى 1.8 مليون برميل يوميا في سنة 2010 وهو ما يعتبر طاقة إنتاجية صحية ومستقرة لا تضر بالمكامن النفطية ومتوافقة مع تجهيزات التصدير والتكرير المتوفرة للصناعة الليبية. كانت ليبيا قد استقطعت ما يقارب من 300 ألف برميل يوميا من انتاجها بداية من سنة 2009 استجابة لترتيبات منظمة أوبك لفرض الاستقرار على سوق النفط بعد حدوث الازمة المالية العالمية في نهاية سنة 2008.
وقد أثر الصراع السياسي والاغلاقات الاحتجاجية على الإنتاج النفطي بداية من سنة 2014 ليتراجع أحيانا إلى ما دون 400 ألف برميل يوميا. يعتقد اليوم أن الطاقة الإنتاجية قد تصل صحيا إلى 1.5 مليون برميل يوميا بشرط استكمال اعمال الصيانة بصورة مستعجلة للبنية التحتية التي أصيبت في عدد من الاماكن.
ويحتاج الاقتصاد الوطني إلى المزيد من الإنتاج خصوصا بعد احتمالات ضعف الأسعار النفطية نتيجة المنافسة مع مصادر الطاقة المتجددة. كما أن الاقتصاد الوطني سيحتاج إلى استهلاك المزيد من النفط والغاز نتيجة النمو المتوقع وهذا يمكن أن يستقطع من العائدات التي تجنى من العملة الصعبة.
من ناحية نظرية يمكن رفع الإنتاج إلى مدى 2.0-2.1 مليون برميل يوميا أي بزيادة قدرها 500-600 ألف برميل يوميا بشرط استثمار مالي يصل إلى 8 مليار دولار. هذا يكون في خطة إنتاجية مدتها بين 4-5 سنوات وتكون الزيادة متدرجة ومتراكمة بإضافات كبيرة في نهايتها. بفرض بدايتها في منتصف سنة 2022 فأنه من المتوقع إنجازها في نهاية سنة 2026.
المبلغ الاستثماري المطلوب يجب أن يتم تخصيص ما لا يقل عن 75% منه من قبل الحكومة من العائدات النفطية في السنوات المقبلة بينما يمكن إشراك الشركاء الأجانب بما قيمته 25% من المبلغ، وذلك للحفاظ على التقسيم المتبع حاليا في الإنتاج بين الحكومة والشركات.
4. تفعيل المجلس الأعلى للنفط والغاز
من ناحية إقرار السياسات الاستراتيجية والاستثمارية التي ستعالج موضوع انقاذ الصناعة النفطية فأن الدولة ستحتاج إلى هيئة عليا تجمع السلطات الأساسية لتنسيق عملية وضع هذه التوجهات موضع التنفيذ. نموذج المجلس الأعلى للنفط والغاز نموذج متبع في أغلب الدول المنتجة للنفط ويتكون أساسا من رأس الدولة وبالاشتراك مع الهيئات المختصة من السلطات التشريعية والسلطات التنفيذية بالإضافة إلى الدعم من الخبراء المختصين بالصناعة والتمويل والسلامة.
قرارات المجلس الأعلى للنفط والغاز يجب أن تكون ملزمة للحكومات والإدارات التنفيذية على مستوى الدولة، كما يمكن تضمينها في تشريعات محتملة. القرارات ينبغي أن تكون على المستوى الاستراتيجي المتعلقة بتنفيذ السياسات على المدى الطويل وتتلافى تماما المساس بالمستويات التشغيلية والتجارية ذات الصلة بالمدى القصير والمتوسط.
5. تحسين سعة التكرير وخفض تكاليفه
تحتفظ ليبيا بسعة تكرير تصل إلى 370 ألف برميل يوميا في مصافي الزاوية، رأس لانوف، البريقة، السرير، طبرق. ومن ناحية تكنولوجية فأن قدرة هذه المصافي قدرة متوسطة ولا تصل إلى التخصصية الفائقة. تحتاج ليبيا إلى العديد من المنتجات النفطية للاستهلاك المحلي وتقدم هذه المصافي جزء كبير من هذه المنتجات بما فيها غاز الطهي، بنزين السيارات، وقود الطائرات، النافتا، الديزل وزيت الوقود الثقيل.
ويوجد عجز في بعض المنتجات أهمها بنزين السيارات والديزل بينما هناك فائض في المنتجات الأخرى. وقد تسبب توقف مصفاة رأس لانوف في توسع العجز في منتوج الديزل المستعمل في الصناعة والنقل وتوليد الكهرباء.
يهتم هذا البرنامج الاقتصادي بتحسين سعة التكرير المحلي وخفض تكاليفه بما يحقق توازن بين الاستهلاك المحلي وطاقة التكرير الممكنة. في العموم لا يتبنى البرنامج أي إضافات سعات تكرير جديدة ممولة من الدولة باستثناء دراسة انشاء معمل فصل مكثفات لرفع إنتاج بنزين السيارات محليا بطاقة 30 ألف برميل يوميا.
يتبنى البرنامج إعادة تشغيل مصفاة رأس لانوف مع تحفيز شركة الخليج العربي لتوفير الخام اللازم للتكرير بكمية 220 ألف برميل يوميا. هذا يتوقف على إنهاء الخلاف القانوني مع الشريك الأجنبي.
وفي هذا الصدد فأن التركيز على زيادة قدرة التكرير لإنتاج الديزل يجب أن تكون أولوية عن إنتاج بنزين السيارات، من ناحية استراتيجية واقتصادية. فمن ناحية استراتيجية فأن الديزل يوفر بديلا اقتصاديا لتغذية محطات توليد الكهرباء خصوصا مع النقص المتوقع في توفير الكميات اللازمة من الغاز الطبيعي بسبب مشاكل في الاحتياطات والإنتاجية والنقل والتي لا يمكن حلها في المدى المتوسط ألا باستثمارات كبيرة.
بالنسبة لبنزين السيارات فأن الاستمرار في استيراد العجز منه يعتبر خيارا اقتصاديا مفضلا وفقا للتكاليف المقارنة من حيث تصدير الخام أو تكريره للحصول على البنزين. من ناحية أخرى فأن تكلفة بنزين السيارات يتوقع أن تنخفض في السوق الاوربية نتيجة ضعف الطلب عليه مما سيزيد من عبء التكلفة المقارنة. هذا لا يمنع من تطوير قدرة لإنتاج البنزين من المكثفات النفطية المنتجة من فصل الغاز الطبيعي ويتوقع أنها يمكن أن تسهم في توفير بين10-15% من الاستهلاك المحلي.