الاستثمار الأجنبي المباشر وتمويل قطاع النفط في ليبيا: دراسة مقارنة

مَـقالْ / د. محمد أحمد الشحاتي

يعتبر الاستثمار الأجنبي المباشر Foreign Direct Investment (FDI) أحد أهم الأدوات التنموية في الاقتصاد الدولي، ويتحكم في اتجاهات تدفقات هذا الاستثمار عوامل عديدة أهمها النواحي السياسية، والقدرات الصناعية والمالية، والثروات الطبيعية ومستوى سعر الصرف واستقراره. ويعرف البنك الدولي الاستثمار الأجنبي المباشر بأنه تدفقات رأس المال الاستثماري المباشر في الاقتصاد المستهدف. وهو مجموع رأس المال السهمي وإعادة استثمار الأرباح ورأس المال الآخر. الاستثمار المباشر هو فئة من الاستثمار عبر الحدود يرتبط بمقيم في اقتصاد ما لديه سيطرة أو درجة كبيرة من التأثير على إدارة مؤسسة مقيمة في اقتصاد آخر. وتعد ملكية 10 في المئة أو أكثر من الأسهم العادية لأسهم التصويت هي المعيار لتحديد وجود علاقة استثمار مباشر. وينشر البنك الدولي بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر لجميع الدول بالدولار الأمريكي الاسمي.


وتتنافس معظم الدول خصوصا النامية للحصول على نصيب من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عن طريق استحداث سياسات جاذبة له من الدول التي تملك الرأسمال الكافي لتصديره. هذه السياسات تقوم على استغلال الموارد الذاتية للدول الراغبة في استقبال هذا الاستثمار ويمكن القول بأن معظم القفزات التنموية التي تحققت في العديد من الدول كانت بفضل تدفقات هذا الاستثمار بما فيها تطوير الصناعات النفطية في الدول المنتجة للنفط.
قاعدة البيانات التي ينشرها البنك الدولي تبدأ برصد حجم الاستثمارات من سنة 1970 حتى سنة 2019 ومصادر المعلومات لهذه القاعدة هي من احصائيات صندوق النقد الدولي، اونكتاد، قاعدة بيانات موازين المدفوعات ومصادر رسمية أخرى.

النظرية الأساسية في هذا الخصوص هي أن حجم الاستثمار الدولي أو الفائض الناتج عن الفرق بين الإنتاج والاستهلاك (الادخار) هو محدود وتتطلب عملية تخصيص هذا الاستثمار للبدائل المتاحة الولوج في منافسة حادة لضمان الحصول على رأس المال المطلوب عبر الحدود. تتحدد عملية تخصيص الاستثمار على مبدأين هامين الأول هو ربحية المشروع المقترح والثاني سهولة استرجاع الأرباح. على المستوى الدولي فأن ضمان ربحية المشروع تعتمد على العديد من العوامل منها استقرار بيئة الاعمال، قوة الطلب المحلي أو العالمي على السلعة أو الخدمة المنتجة والقانون الضريبي في الدولة المستهدفة وأخيرا وضوح عملية استرداد رأس المال أو الأرباح عبر الحدود ما يتطلب التعامل مع أنظمة وتقلبات سعر الصرف.
وقبل أن نناقش ارتباط الاستثمار الأجنبي المباشر بتمويل صناعة النفط نعرض بعض الاحصائيات المقارنة بين ليبيا وبعض دول المنطقة فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر. وهنا يجب أن نلاحظ أن القيمة السالبة في الاستثمار الأجنبي المباشر تعني أن صافي التدفق الخارج من الدولة هو أكثر قيمة من التدفق الداخل، وهو ما تعكسه الاعمدة الحمراء في الرسومات البيانية بينما تعكس الاعمدة الخضراء التدفقات الداخلة من الاستثمار الأجنبي المباشر للدولة.
ويبدو من الرسومات أن هناك تدفقات مالية كبيرة من الدول الرأسمالية إلى اقتصادات المنطقة بما فيها ليبيا، وقد استأثرت الدول النفطية بمبالغ مهمة خلال الفترة 1970-2019. ويوجد اتجاه واضح لزيادة مفرطة في الاستثمار الأجنبي المباشر بعد سنة 2000 في كل الدول خصوصا في الفترة 2000-2010 وبالرغم من الاتجاه التناقصي بعد سنة 2010 ألا أن التدفقات كانت إيجابية لبعض الدول خصوصا السعودية.
وتعكس الرسوم التي تمثل اجمالي الفترة 1970-2019 بعدا هاما فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي حيث تشير الأرقام أن ليبيا قد أضاعت ما يقرب من 31% من الاستثمارات المتدفقة لها بينما كانت هذه النسبة 22.8 % لقطر، 6.3% للسعودية، 5.53% للكويت، 0.38% لمصر، وصفر% لتونس.
وبينما يعكس هذا الفشل الاستثماري في ليبيا فهو يعكس في نفس الوقت كفاءة في الاستثمار مثلا في تونس التي حافظت طوال الفترة على التدفق الإيجابي للاستثمار الأجنبي المباشر لاقتصادها.
ننتقل هنا إلى مناقشة الارتباط بين الاستثمار الأجنبي المباشر وصناعة النفط. ويمكن ملاحظة أن التدفقات الاستثمارية للدول المنتجة للنفط كانت منخفضة جدا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي نتيجة حركة تأميم النفط وبالتالي تمويل الصناعة من الفوائض المالية التي تحققت من الأسعار المرتفعة للنفط والتي استمرت إلى منتصف الثمانينات تقريبا.
بالنسبة لليبيا فقد تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بشدة بعد التأميم النفطي في بداية السبعينات وقد أتاح هذا التراجع للصناعة أن تستفيد أكثر بعوائد تصدير النفط. ونظرا لأن القطاع النفطي هو القطاع الوحيد الجاذب للاستثمارات الأجنبية فأن توقف التمويل الأجنبي على القطاع مع استمرار التدفق الخارجي للاستثمارات في سنوات 1977-1984 نتج عنه رقم سلبي للاستثمار الأجنبي المباشر بمعنى أن الفوائض من العائدات النفطية الليبية كان يتم توجيهها للاستثمار في الخارج بنسبة أكبر من تلك رؤوس الأموال الأجنبية التي استطاع الاقتصاد الليبي أن يجذبها.
التعثر في تمويل الصناعة النفطية خصوصا بعد خروج الشركات الامريكية من البلد في منتصف الثمانينات أدى إلى الاعتماد على تمويل من شركات أوربية لتطوير امتيازات نفطية جديدة أساسا حقل البوري البحري في النصف الثاني من الثمانينات والذي تم تطويره من قبل شركة إيني الإيطالية وحقل الشرارة في الجنوب الغربي والذي تم تطويره من قبل شركة ربسول الاسبانية. هذا أدى إلى تدفق إيجابي من الاستثمارات الأجنبية في الفترة 1988-1993. ساعدت هذه الاستثمارات في رفع القدرة الإنتاجية الليبية لتتجاوز 1.5 مليون برميل يوميا بعد انخفاضها إلى أقل من مليون برميل يوميا في 1983-1987.
استطاعت الصناعة النفطية أن تجذب استثمارات كبيرة بعد سنة 2000 عندما تم رفع الحصار الاقتصادي عن الدولة الليبية وعودة الشركات الأمريكية للصناعة النفطية الليبية. وقد تم في الفترة 2000-2013 استجذاب ما يقارب من 17.8 مليار دولار تم استثمار معظمها في رفع القدرة الإنتاجية للنفط والغاز الطبيعي خصوصا في مشاريع غاز غرب ليبيا وخط الغاز غرين ستريم لإيطاليا. تميزت هذه الفترة أيضا بارتفاع سعر التكلفة خصوصا مع الارتفاع الكبير في سعر الحديد وأسعار المواد الكيمائية الداخلة في العملية الإنتاجية. وبالرغم من الاستثمار الكبير الذي تم اجتذابه بعد جولات عرض إبسا ألا أن الاكتشافات الجديدة كانت محدودة مقارنة بالاستثمار نظرا أما لعدم استكمال النشاط الاستكشافي بسبب الاضطرابات السياسية أو لعدم وجود احتياطات في مناطق الامتياز الممنوحة من الأصل.
اجتذاب الاستثمار الأجنبي كما هو ملاحظ مهمة تزداد صعوبة حيث يتم تخصيص الاستثمارات الجديدة إلى صناعات غير موجودة في المنطقة مثل الطاقات المتجددة والصناعات الالكترونية وصناعات الفضاء والطيران الأكثر ربحية نتيجة قوى السوق أو سياسات الدعم الحكومي لها. وقد انخفضت الاستثمارات الموجهة لقطاع النفط والغاز دوليا من تريليون دولار سنويا إلى أقل من 400 مليار دولار معظمها ينتهي في الدول الآمنة استثماريا في أمريكا الشمالية أو أوربا. وبمعادلة بسيطة فأن نسبة ليبيا من الاستثمار الدولي في قطاع الطاقة لم تتجاوز 0.0015% حيث بلغت 1.5 مليار دولار من تريليون دولار سنويا في المتوسط للفترة 2005-2010. الحصة المتوقعة بفرض استقرار سياسي وصناعي اليوم لن تتجاوز 400 مليون دولار سنويا. الحاجز الاستثماري Hurdle Rate في صناعة النفط لاجتذاب هذا القدر من الاستثمار لا يجب أن يتجاوز 10%. البنوك الدولية تصنف ليبيا عند حاجز استثماري يصل إلى 22% نتيجة الاضطراب السياسي والصناعي وهذا سيحدد إلى أقل مستوى أي تدفق استثماري إيجابي، ولا يمكن تصور أي مخاطرة بمبالغ أكثر من 100 مليون دولار سنويا على أبعد تقدير، وهو مبلغ لا يمكن أن يطور الصناعة أو يتسبب في أي رفع معتبر للقدرة الإنتاجية. تحتاج الصناعة النفطية إلى استثمار 12 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات لرفع القدرة الإنتاجية إلى 2.5 مليون برميل يوميا.

بافتراض أن الاستثمار الاجنبي المباشر يتدفق أساسا من قنوات اتفاقيات تقاسم الانتاج فأن هناك حدود قانونية لعملية جذب الاستثمار، ألا أن ارتفاع الاسعار حاليا يخفف إلى حد كبير من هذه الحدود من ناحية الاقتصاديات.

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

المزيد من الأخبار

القائمة