د. محمد بوسنينة
تصاعدت في الاونة الاخيرة مطالبات بالاصلاح الاقتصادي في ليبيا وكتبت حوله عديد المبادرات ، بل اعد بشانه برنامج متكامل عامي 2017- 2018 عرف ببرنامج الاصلاح الاقتصادي والمالي والذي اتخدت على اثره اجراءات تناولت جانبا او جزءية تتعلق باصلاح سعر الصرف ( معالجة جزءية )، ولم يتم اتخاد اية اجراءات اخرى تتعلق ببقية مبادرات البرنامج المتعلقة بمعالجة دعم المحروقات واصلاح المالية العامة واصلاح قطاع النفط واصلاح المؤسسات الحكومية وتوحيد المؤسسات السيادية وتحقيق التوازن والاستقرار الاقتصادي والمالي . كما اعدت مبادرات اخري تضمنت روءية متكاملة لاعادة هيكلة الاقتصاد الليبي من جهة والقيام باصلاحات اقتصادية على المدى القصير والمتوسط ، وقد جاءت هذه المبادرات ذات الرؤية الشاملة في اطار البحث عن حلول جدرية للازمة الليبية بابعادها الاقتصادية والاجتماعية والامنية . ومن المهم هنا التمييز بين ما يعرف بالاصلاح الاقتصادي economic reform واعادة هيكلة الاقتصاد economic restructuring من جهة ، والاصلاح الهيكلي structural reform من جهة اخرى ، حيت كثيرا ما يقع اصحاب المبادرات ودعاة الاصلاح في خطأ استخدام هذه المصطلحات للتعبير عن نفس الفكرة ، كان يتم الحديت عن تنويع مصادر الدخل ضمن الحديت عن الاصلاح الاقتصادي على المدى القصير ( مثلا اصلاح سعر الصرف او اصلاح الدعم ) او ، من ناحية اخرى الحديث عن اصلاح المالية العامة في سياق الحدث عن اعادة هيكلة الاقتصاد ، من ناحية اخري يتم الحديت عن اصلاح قطاع الكهرباء والمواصلات او اصلاح بيئة الاعمال والتي تندرج ضمن برامج الاصلاح الهيكلي والمساواة بينها وبين اصلاح الدعم اواصلاح سعر الصرف . والحقيقة هناك فرق بين هذه المصطلحات وما تمثله من برامج ( اصلاح اقتصادي ، اصلاح هيكلي ، اعادة هيكلة ) وبالتالي يوجد اختلاف في السياسات والاجراءات التي تستهدف تحقيق كل منها ، رغم التداخل الذي قد يبدوا ظاهرا بينهما في سياق الحديت عن معالجة المشاكل الاقتصادية في الدول التي تحتاج لاصلاح اقتصادي واعادة هيكلة في آن واحد . ومن باب تبسيط الامور يمكن القول بان اعادة الهيكلة الاقتصادية تؤدي الى اصلاح اقتصادي ،كما تؤدي اعادة الهيكلة الى اصلاحات هيكلية ، في نهاية المطاف . وللمزيد من التوضيح يمكن تصنيف برامج الاصلاح الاقتصادي واعادة الهيكلة والاصلاحات الهيكلية ، على النحو التالي :
الاصلاح الاقتصادي ويشمل على الاخص :
-اصلاح سعر الصرف والقضاء على السوق السوداء للنقد الاجنبي .
-اصلاح الدعم .
-اصلاح المالية العامة .
-الحد من التضخم وتحقيق الاستقرار في الاسعار .
-الاصلاح الضريبي .
الاصلاح الهيكلي ويشمل على الاخص :
-اصلاح قطاع الطاقة والكهرباء والمواصلات .
-تهيئة بيئة الاعمال وتقليص القطاع غير الرسمي في الاقتصاد .
-اصلاح سوق العمل .
-الحماية الاجتماعية والشمول الاجتماعي .
-البحث والتطوير والابتكار والاقتصاد الرقمي .
– اصلاح القطاع الصحي واصلاح قطاع التعليم .
– اصلاح النظام المالي والمصرفي .
اعادة الهيكلة وتشمل على الاخص :
-تنويع مصادر الدخل والتخلص من هيمنة قطاع النفط كمصدر وحيد للدخل وتمويل الميزانية العامة .
-توسيع دائرة نشاط القطاع الخاص على حساب القطاع العام ، بحيت تزداد نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الاجمالي نسبة لمساهمة القطاع العام .
-تحويل نشاط بعض المناطق الحضرية الصناعية لتصبح مناطق لقطاع خدمي .
-تقليص حجم القطاع الحكومي بهدف التخلص من التشوهات المترتبة على القيود المفروضة من قبل الحكومة .
-السماح لنظام السوق بالتوسع واضطلاعه بدور اكبر في تخصيص الموارد .
وقد هيمنت الافكار المرتبطة بالاصلاح الاقتصادي او الاصلاحات الهيكلية على تفكير الحكومات والمؤسسات الدولية المعنية مند التمانينات والتسعينيات من القرن العشرين ، حيث تصاعدت الاصوات المطالبة بتعويم العملات ، وتخفيض الرسوم الجمركية ، والتخفيف او التخلص من القيود التي تفرضها الحكومات مثل القيود الكمية على الواردات ، او تخفيض معدلات الضرائب واصلاح النظام الضريبي ، ومعالجة دعم المحروقات ، وخصخصة شركات القطاع العام ، واصلاح سوق العمل ، واصلاح القطاع المصرفي ، او اصلاح قطاع الكهرباء ، وغيرها من الاصلاحات ( reforms ) الهيكلية والقطاعية ، التي كثيرا ما يتم اقتراحها من بعض مؤسسات التمويل الدولية ، مثل صندوق النقد الدولي ، في شكل حزمة من السياسات وتقدم كشرط للحصول على التمويل او الاقتراض من صندوق النقد الدولي . وقد تلتجئ الدولة لاجراء اصلاحات اقتصادية تمليها الظروف التي تعيشها هذه الدولة وادراكا منها بضرورة التخلص من التشوهات التي يعاني منها الاقتصاد ، وكاجراء تلقائي وطني غير متاثر باملاءات خارجية ، على غرار اصلاح سعر الصرف في ليبيا خلال الفترة 1999- 2002 . وقد يتمثل الاصلاح الاقتصادي في الغاء القيود التي تمارسها المؤسسات الحكومية على النشاط الاقتصادي مثل الغاء تراخيص الاستيراد او الغاء القيود الكمية على الواردات او تحرير نظم الاتصالات . ومن ضمن الاصلاحات الهيكلية التي طبقت في دولة ماليزيا تحويل وزارة الاتصالات للقطاع الخاص ،حيت اصبحت وزارة على راسها وزير من القطاع الخاص ، وقد وفر هذا الاجراء على الحكومة كامل المصروفات التي كانت تخصصها لهذه الوزارة ضمن موازنة الحكومة وصار القطاع الخاص يمول هذه الوزارة بالكامل ، وصارت الحكومة تجبي منها رسوم وعوائد لتمويل ميزانياتها . وعندما يفشل السوق ( market failure ) لمختلف الاسباب ، كان تزداد الممارسات الاحتكارية او يتم تجاوز المواصفات والمعايير الوطنية او تطرأ فجوة كبيرة في مستويات الدخول ، او تقع ازمة اقتصادية يتراجع في ظلها النشاط الاقتصادي ، على غرار الازمة الاقتصادية المرافقة لجائحة فايروس كورونا المستجد ، تضطر الحكومة ، في هذه الحالة ، للتدخل في النشاط الاقتصادي بدعم القطاع الخاص لانقاد مؤسساته من الانهيار وللحيلولة دون وقوع ركود اقتصادي واسع . كما قد تظطر الحكومات لفرض المزيد من الرقابة على النشاط الاقتصادي وتحويلات الاموال ... الخ . ويرتبط نجاح الاصلاح الاقتصادي في تحقيق اهدافه بمدى نجاعة المؤسسات القائمة ، وذلك باعتبار المؤسسات هي الضامن لنجاح الاصلاح الاقتصادي . والجدير بالذكر ان الاصلاح الاقتصادي يعتبر عملية مستمرة ضمن برامج نصف سنوية وسنوية ، وعلى نحو مستمر .
اما اعادة الهيكلة الاقتصادية ( restructuring ) فهي عملية اعمق واشمل من برامج الاصلاح الاقتصادي ، لان اعادة الهيكلة تصب في اتجاه احداث تغير جدري في هيكل الاقتصاد كأن يتخلى القطاع العام عن انتاج السلع واستيرادها وتوزيعها لصالح القطاع الخاص ، او ان يتغير هيكل النشاط الاقتصادي لصالح القطاع الخاص بحيت يهيمن القطاع الخاص مثلا على 80% من النشاط الاقتصادي ويساهم بالنسبة الاكبر في هيكل الناتج المحلي الاجمالي ، في حين ينحسر دور القطاع العام في انتاج السلع والخدمات ( مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي ) لتصبح في حدود 20% مثلا . كما تعني اعادة الهيكلة التحول من مصدر وحيد للدخل ( مثل النفط ) الى عدة مصادر بديلة اخرى ( مثل الصناعات التصديرية ، والاستثمار في المناطق الحرة ، والسياحة ، او الزراعة ، اوتجارة الخدمات التي تدر عوائد بالنقد الاجنبي ، وغيرها من مصادر الدخل الاخرى ) . ويترتب على اعادة الهيكلة السماح للسوق ( نظام السوق ) بلعب دور اكبر في تخصيص الموارد بحيث يتطور دور السوق من مجرد سوق اقليمى ( مناطقي ) الى سوق وطني تم الى سوق عالمي . ويكون هذا التحول ، في العادة ، مدفوعا بحدوث تقدم تكنولوجي . بمعنى ان يتطور اداء مؤسسات الدولة مدفوعا بتبني ثقنية متطورة ، ويقتصر دور الحكومة في هذه الحالة على مراقبة النشاط الاقتصادي وتهيئة البيئة المناسبة لممارسة النشاط ، وسن التشريعات اللازمة والداعمة للقطاع الخاص والمنظمة لنشاطه . وهناك ابعاد جغرافية لاعادة الهيكلة الاقتصادية ، في اطار تفسير التباين الجغرافي في التنمية الاقتصادية ، عندما يحدث تغير في انماط تقسيم العمل مناطقيا ، كان يتحول اقليم او منطقة معينة من ممارسة نشاط اقتصادي معين الى نشاط اخر ، على سبيل المثال يصبح الاقليم صناعى او يحتوي تجمعات صناعية بينما كان يفتقر لها في السابق ولا يتعدى كونه مجتمعا استهلاكيا ، او يصبح الاقليم مصدرا للخدمات بعد ان كان اقليما زراعيا او صناعيا ، و يصبح النشاط الجديد الطابع المميز للثقافة السائدة به والسلوك الاقتصادي للمؤسسات القائمة به . او ان تتطور نشاطات اقتصادية جديدة في المناطق الحضرية .
وفي الاقتصاد الليبي ، اصبح الحديث عن الاصلاح الاقتصادي محور اهتمام مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني ، وحتى المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، مدفوعا هذا الاهتمام باستفحال المشاكل اليومية التي يعاني منها المواطن والظواهر السلبية والتشوهات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني ، وبحثا عن حلول سريعة لهذه المشاكل . وفي ذات الوقت قل الاهتمام بضرورات اعادة الهيكلة رغم اهميتها ، التي تتطلب خطط وبرامج على المدى المتوسط والمدى الطويل ، وهناك من يقول لنترك امر اعادة الهيكلة الى حين قيام الدولة ، متناسيا ان قيام الدولة ( مؤسسات الدولة ) يعتبر شرطا ضروريا لنجاح اية اصلاحات اقتصادية وان كانت محدودة ، وان اية اصلاحات اقتصادية تعتبر مهددة بالفشل مالم تكن هناك مؤسسات مستقرة ضامنة و قادرة على تنفيد هذه الاصلاحات . وتصبح الاصلاحات الاقتصادية في الحالة الليبية اكتر عرضة للانتكاس والفشل اذا ربطت باستمرار تدفق ايرادات النفط ( رغم كون بعضها مرتبط فعلا باستمرار تدفق ايرادات النفط )، بالنظر لما يعانيه قطاع النفط من مشاكل وما يواجهه من تحديات . وقد اصبح الحديت عن تحقيق نجاحات سريعة ومحددة quick wins في بعض القطاعات لمعالجة المختنقات التي تعاني منها يحظى بالاولوية على حساب معالجة المعضلات الرئسية التي يعانى منها هيكل الاقتصاد الوطني ، رغم الارتباط العضوي بين هذه المختنقات وهيكل الاقتصاد الوطني ، اذ تعتبر هذه المشاكل القطاعية والتشوهات الاقتصادية انعكاسا للخلل الهيكلي الذي يعاني منه الاقتصاد الوطني.
ومن المشاكل التى تؤرق المجتمع باكمله مشكلة البطالة اللاارادية ، التي تجاوزت معدلاتها في ليبيا كل المعايير المقبولة ، وقد رتبت مشاكل اجتماعية ونفسية كبيرة علاوة على كونها تمثل تعطيل لاهم مورد اقتصادي يعول عليه لتحقيق التنمية ، الا وهو المورد البشري . والبطالة التي نعنيها ، والتى تمثل مشكلة حقيقية هي البطالة الهيكلية ، structural unemployment والتي تعني في ابسط صورها عجز الاقتصاد الوطني عن خلق فرص عمل للباحثين عن العمل من خريجي الجامعات والمعاهد العليا وغيرها ،، نتيجة لوجود خلل في هيكل الاقتصاد الوطني لكونه اقتصاد غير انتاجي ويعتمد على مورد دخل وحيد ( اقتصاد غير متنوع ) ولا يتصف قطاعه الانتاجي بالمرونة الكافية تجاه المحفزات على الانتاج لطبيعته الريعية ولاعتماده على الدعم بصوره المختلفة . ولذلك فان علاج مشكلة البطالة يرتبط بجهود وضرورات اعادة الهيكلة الاقتصادية . ويمكن ان يتحقق ذلك من خلال جملة من البرامج والاجراءات ، من بينها :
فتح المجال امام القطاع الخاص للعب دور اكبر في النشاط الاقتصادي وتهيئة الظروف المناسبة لذلك حتي يمكنه استيعاب اكبر قدر ممكن من الباحثين الجدد عن العمل .
-التوجه نحو الاستثمار في مجالات جديدة واستغلال الموارد الاقتصادية غير النفطية الواعدة مثل المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة والسياحة والصناعات التصديرية ( الصناعات التي يمتلك فيها الاقتصاد ميزة تنافسية ) .
-تنفيد ودعم برامج الصناعات الصغرى والمتوسطة للشباب ، وتبني مبادرات ارساء صناعة البرمجيات وتقنية المعلومات .
-مراجعة التشريعات والقوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي بما يعزز دور القطاع الخاص ، واصدار اللوائح التنفيدية للقوانين الصادرة والالتزام بتطبيقها .
-اعطاء الاولوية للعنصر الوطني في التشغيل ، والزام الشركات الاجنبية باستخدام نسبة من العمالة الوطنية ضمن العاملين بها واعتبار ذلك شرطا من شروط التعاقد .
اما البطالة المقنعة المرتبطة بالتوسع في التشغيل في القطاع العام ، وتكدس الموظفون في الوحدات الادارية والمؤسسات العامة ، فهي نتيجة طبيعية للثقافة الريعية ، والاعتقاد بان من حق كل فرد الحصول على حصة من ايرادات النفط ، فالمرتب في الواقع يعتبر نمط من انماط توزيع الدخل المتولد من تصدير النفط ، اذ عوضا عن استثمار ايرادات النفط في مشاريع استثمارية تخلق فرص عمل للباحثين عنه ، يتم دفع هذه الايرادات في شكل اجور ومرتبات ، يتجه معظمها لاغراض استهلاكية ، ولا تعود على الاقتصاد الوطني باية منافع تعزز نموه وازدهاره . وهذا جانب من المشاكل الاقتصادية التي يمكن استهدافها بالاصلاح وفقا لبرنامج يعد بهذا الخصوص .
ومن الاهمية بمكان ضرورة مراعاة الترابط القوي بين سيناريوهات الاقتصاد الكلي وبرامج اعادة الهيكلة والاصلاح الاقتصادي ، وذلك لضمان الشمولية والتكامل والترابط المنطقي والفعالية والمصداقية في البرامج المنفذة لهذه الاصلاحات ، وان تجري متابعة وتنسيق اجراءات الاصلاح واعادة الهيكلة من قبل لجنة قطاعية تتكون من الوزارات ذات العلاقة ، لكي تكون ملكية هذه البرامج جماعية ، وان تحضى بالدعم السياسي اللازم . كما انه من المهم اشراك والتشاور مع شركاء اخرون مثل منظمات المجتمع المدني بالاضافة الى البرلمان والسلطات المحلية المثمتلة في البلديات .