البنية التحتية بوابة العبور إلى التنمية المستدامة .. 250 تريليون دولار استثمارات عالمية مطلوبة حتى 2050

هشام محمود من لندن

البنية التحتية بالنسبة إلى عديد من الاقتصاديين بوابة العبور إلى عالم التنمية الاقتصادية المستدامة، وهي أيضا مكوك الفضاء القادر على التحليق بالدولة والمجتمع معا إلى آفاق النمو الاقتصادي المرتفع، بما يحدثه من تغيرات جذرية في هيكل الدولة وبنية المجتمع ونقلهما أعواما وعقودا إلى الأمام.
لكن بوابة العبور في حاجة إلى كلمة سر تفك مغاليقها، لتفتح الأبواب على مصاريعها لآفاق التنمية الاقتصادية وكنوزها. ولمكوك الفضاء “كود” بدونه لن ينطلق ويحلق عاليا في رحاب النمو الاقتصادي، وكلمة السر هي الاستثمار في البنية التحتية. وعلى الرغم من بساطة الكلمة، إلا أنها في واقع الأمر لا تبدو بتلك البساطة.
وقبل الولوج إلى عالم البنية التحتية أو الأساسية، فإن المصطلح يعرف باعتباره يضم المرافق والأنظمة الأساسية التي تخدم دولة أو مدينة أو منطقة، مثل أنظمة النقل والاتصالات ومحطات الطاقة والمدارس.
ويعرف بعض الاقتصاديين البنية التحتية، بأنها المرافق الداخلية للدولة التي تجعل النشاط الاقتصادي والتجاري ممكنا، مثل شبكات الاتصالات والنقل والتوزيع والمؤسسات والأسواق المالية وأنظمة الإمداد بالطاقة.
وقدر مختصون حاجة العالم إلى استثمارات قد تصل إلى 250 تريليون دولار في أقل تقدير لتلبية الحد الأدنى من التوسع في البنية التحتية حتى منتصف القرن الجاري.
بدورها، تحدد لـ”الاقتصادية” الدكتورة جانيت هنري أستاذة مبادئ علم الاقتصاد في جامعة لندن، مصطلح البنية التحتية باعتباره “المكونات المادية للأنظمة المترابطة التي توفر السلع والخدمات الأساسية لتمكين أو استدامة أو تحسين الظروف المعيشية للمجتمع”.
وأهمية تلك التعريفات أنها تجعل المختصين على دراية أكثر بأهمية قضية الاستثمار في البنية التحتية، بوصفها قضية محورية ومؤرقة لجميع صناع القرار السياسي والاقتصادي في كل المجتمعات والدول كافة.
فالأمر لا يتعلق بمشروع استثماري أو إنتاجي يمكن استبداله بمشاريع بديلة، إنما يتعلق بالأساس الذي ستنطلق منه عملية التنمية في المجتمع.
كما أن الأمر لا يتعلق بمشروع ببضعة ملايين أو عشرات أو حتى مئات الملايين من الدولارات، يمكن اقتراضها محليا أو دوليا لبنائه، إنما يتعلق الأمر بسلسلة متكاملة من المشاريع وتكاليف في حدها الأدنى تقدر بعشرات إن لم يكن مئات المليارات من العملات الصعبة.
ولا يقف الأمر عند حدود كيفية توفير تلك الموارد، لكن تظل هناك تحديات أخرى من قبيل كيفية وضع سلم الأولويات بالنسبة إلى البنية التحتية، وهل يسبق قطاع الاتصالات قطاع المواصلات، وماذا عن إنشاء المدن الجديدة، وما مبررات أن توجه إليها الموارد المالية على حساب تعزيز شبكة الصرف الصحي في الدولة بأكملها على سبيل المثال؟
البروفيسور إل. إم . أرسل أستاذ الدراسات المستقبلة في جامعة جلاسكو، يرى أن المشكلات المتعلقة بالبنية التحتية وما يعتريها من تحديات التحديث والتطوير، قضية موحدة للاقتصاد العالمي، حيث لا توجد دولة متقدمة أو اقتصاد ناشئ أو مجتمع نام إلا وتعد قضية البنية التحتية والقصور فيها – بالطبع بدرجات ونسب مختلفة – قضية أساسية وحيوية تواجه جميع الاقتصادات أيا كانت درجة تطورها ونموها.
ويقول لـ”الاقتصادية”، “عند الحديث عن الاستثمار في البنية التحتية على المستوى العالمي، فإن تحديد أرقام قاطعة بهذا الشأن أمر شديد الصعوبة، لعديد من الأسباب، من بينها اختلاف سنة القياس بل ومعايير القياس، والفترة الزمنية”.
ويضيف “لكن إذا أخذنا في الحسبان أنه بحلول عام 2050 فإن تعداد سكان العالم سيزيد بنحو ملياري نسمة تقريبا، أي بما يعادل 25 في المائة من إجمالي السكان حاليا، ومع زيادة الهجرة إلى المدن فإن أعداد سكان المدن ستزيد بنحو 50 في المائة، ما سيوجد احتياجات هائلة وضغوطا خطيرة على البنية التحتية، ولذلك سيكون المجتمع الدولي في حاجة إلى استثمارات تراوح بين 210 و250 تريليون دولار في أقل تقدير، لتلبية الحد الأدنى من التوسع في البنية التحتية”.
ويشير أغلب الخبراء إلى أن البنية التحتية ستتغير بشكل رئيس خلال العقود الثلاثة المقبلة حتى منتصف القرن، مدفوعة أساسا بأربعة اتجاهات رئيسة “التحول الرقمي، الاستدامة، التركيبة السكانية، وزيادة عدد سكان المناطق الحضرية”. والتغيرات الجارية في الاقتصاد العالمي تجعل الاندماج بين العوامل الأربعة مستقبلا أكثر قوة ومتانة مما هو عليه حاليا، وستكون البنية التحتية المستقبلية لقطاع الاتصالات والطاقة شديدة الحيوية، لضمان عمل المجتمعات والحفاظ على معدلات نمو اقتصادي مرتفعة.
لكن اقتصاديين يعتقدون أن التغيرات ستنعكس على أنواع اللاعبين العاملين في مجال البنية التحتية، كما سينضم لاعبون جدد، في وقت لا يتعلق الأمر فيه هنا بالدول بقدر تعلقه بمؤسسات اقتصادية.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية”، باركر هوسن الباحث الاقتصادي “اللاعبون الجدد في مجال البنية التحتية هم عمالقة التكنولوجيا وصناديق الثروة السيادية، وبالطبع الصناديق السيادية ستسعى إلى استخدام استثماراتها لتحقيق أهداف سياسية، إضافة إلى الأهداف الاقتصادية”.
ويضيف “هذا لا يعني استبعاد اللاعبين التقليدين كالدول، لكن سيكون عليهم تأمين الوصول إلى القدرات والخبرات الجديدة، للتعامل مع زيادة الترابط بين البنية التحتية والتطبيقات الأكثر شمولا للمعلومات وتكنولوجيا التواصل”.
بالطبع الشراكة بين الجانبين تعد أبرز احتملات الأعوام المقبلة، لكن الدولة وقراراتها المتعلقة بتطوير البنية التحتية ستظل المحرك الرئيس في هذا المجال. وفي هذا السياق تلعب الصين دورا متزايدا في البنية التحتية على نطاق عالمي، بما في ذلك القدرة على وضع معايير البنية التحتية، فمبادرة الحزام والطريق الصينية هي حاليا أكبر برنامج للبنية التحتية على وجه الأرض، وفي حال اكتمل المشروع فإن تأثير الصين في تشكيل البنية التحتية قد يمتد إلى ما بين 50 – 55 دولة، وقد تؤثر في البنية التحتية في بعض الدول الأوروبية.
على الرغم مما سببته جائحة كورونا من الألم للاقتصاد العالمي، فإن الاتجاه العام للإنفاق على البنية التحتية بدأ في الانتعاش بعد أعوام من التعثر نتيجة الأزمة المالية العالمية، حيث إن أغلب التوقعات تشير إلى أن الإنفاق على البنية الأساسية سيعاود الانتعاش على المستوى الدولي خلال العقد المقبل.
بدوره، يؤكد لـ”الاقتصادية”، روبنس روزويل الباحث في جامعة أكسفورد من قسم الدراسات المستقبلية، أن الإنفاق على البنية التحتية سيبلغ تسعة تريليونات دولار سنويا بحلول عام 2025 مقابل أربعة تريليونات دولار عام 2012، مبينا أنه خلال الفترة بين 2015 و2025 من المرجح أن يكون إجمالي الإنفاق على البنية الأساسية عالميا قد بلغ 78 تريليون دولار، وزعت بمقدار 62 في المائة في الدول المتقدمة والنسبة الباقية بين الاقتصادات الناشئة والنامية.
مع هذا يشير الباحث روبنس روزويل إلى أن الدول غير المثقلة بأعباء الديون أو التي تعاني ظاهرة البنوك المتعثرة أو تتبنى سياسات تقشفية ستكون أكثر قدرة على الإنفاق في البنية التحتية مثل الصين واقتصادات جنوب شرق آسيا، إذ ستمثل الأسواق الآسيوية والمحيط الهادئ مدفوعة بنمو الصين ما يقرب من 60 في المائة من الإنفاق على البنية التحتية بحلول عام 2025، في المقابل فإن حصة أوروبا الغربية ستتقلص إلى أقل من 10 مما كانت عليه قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وتتضح الصورة بشكل أكثر وضوحا مع المقارنة بالإنفاق على البنية التحتية عام 2009 بين مجموعة السبع، وتشمل “الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، المملكة المتحدة، فرنسا، إيطاليا، وكندا”، إذ بلغ إنفاقها على مشاريع البنية التحتية 29 تريليون دولار، بينما الدول الأكثر بروزا في الاقتصادات الناشئة وتضم “الصين، الهند، البرازيل، روسيا، إندونيسيا، والمكسيك” فقد بلغ مجموع إنفاقها في العام نفسه 20.9 تريليون دولار.
في حين تشير التوقعات الآن إلى أنه بحلول منتصف القرن الحالي فإن إنفاق مجموعة السبع على البنية الأساسية سيبلغ 69.3 تريليون دولار بينما سيبلغ إنفاق مجموعة الدول الناشئة 138.2 تريليون دولار.
قد تحمل تلك التوقعات كثيرا من الواقعية في ظل المسار الراهن للاقتصاد العالمي، الذي يترافق مع بروز مساهمة الاقتصادات الناشئة في الاقتصاد الدولي، ما يعزز من قدرتها على ضخ مزيد من الاستثمارات في البنية الأساسية، خاصة في القطاعات ذات الطبيعة الاستهلاكية مثل قطاعي النقل والتصنيع التي توفر وتوزع المواد الخام للسلع الاستهلاكية.
وتؤكد تلك التطورات أن التركيز على أنماط البنى التحتية سيختلف من دولة إلى أخرى. وستلعب التغييرات الديموغرافية حسب المنطقة والدولة دورا رئيسا يؤثر في مقدار ونوع الإنفاق على البنية التحتية، حيث إن الدول الغربية واليابان وبحكم تنامي الشيخوخة في تلك المجتمعات فإن حكوماتها ستتجه إلى ضخ مزيد من الإنفاق على البنية التحتية المرتبطة بالقطاع الصحي، بينما دول الشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء وأجزاء من القارة الآسيوية ونتيجة لزيادة عدد الفئات العمرية الشابة فستكون في حاجة إلى مزيد من المدارس والمنشآت الترفيهية.
وتكتسب عملية الاستثمار في البنية التحتية تشجيعا حارا بين جميع الخبراء والاقتصاديين، إذ إن تسريع الإنفاق على البنية التحتية يدفع بالنمو الاقتصادي ويوفر الوظائف، ويساعد على تقديم الخدمات الحيوية. وقد قدر المنتدى الاقتصادي العالمي أن كل دولار ينفق على رأسمال مشروع في المرافق العامة، الطاقة، النقل، إدارة النفايات، والاتصالات، يولد عائدا اقتصاديا يراوح بين 5 و25 في المائة، خاصة في الاقتصادات الناشئة

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

القائمة