التحدي الحقيقي ليس التخلص من وضع غير مرغوب فيه، بل صناعة الوضع الأخر المرغوب فيه

عبدالحكيم التليب

الهدم سهل، وكل من هب ودب يستطيع أن يمارس الهدم في لحظات قليلة، أما البناء فأنه موضوع أخر مختلف تماما، وهناك أنماط عديدة لعملية البناء.

هناك البناء العشوائي بلا خريطة، حيث يقضي البعض السنوات الطويلة ويتكبدون التكاليف والتضحيات والتعب، ثم يكتشفوا في نهاية المطاف ان البناء عشوائي وأعوج ويحتاج الى “الإزالة لغرض التطوير”، والغريب والمدهش هو أنهم يكررون نفس القصة من جديد، ويسارعون الى الهدم، ثم ينطلقوا بحماسة منقطعة النظير لتكرار نفس تجربة البناء العشوائي بلا خريطة، ربما لأنهم مستعجلون، وفيسع فيسع، وتوه توه،، “أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار”!

وكما هو معروف ومشهور فأن البناء (علم هندسي) يخضع لمعايير وأصول وقواعد وعلوم هندسية تراكمت وتطورت عبر الاف السنين، وهذا العلم يسمونه (الهندسة المدنية) أو ربما (الهندسة العمرانية)، وأولوا الالباب لا يضيعون وقتهم في محاولة إعادة إختراع العجلة، بل يستفيدون من الموجود، ويكيفونه حسب حاجتهم، ويضيفون أليه الجديد أن أستطعوا.

البناء يحتاج الى (رؤية) واضحة، فمن غير المتوقع أن ينطلق مشروع البناء بدون أن تكون هناك رؤية واضحة محددة قابلة للقياس للهدف من المبنى، هل هو سكني، أم تجاري، أم صناعي، وهل المبنى يتكون من دور واحد او دورين، أو برج من مائة دور، وكم عدد الحجرات، وهل يوجد مصعد، وكم عدد الحمامات، وما هي مقاسات النوافد، والخ الخ؟

البناء يحتاج الى خريطة والى مواصفات هندسية واضحة محددة، ولك أن تتخيل ماذا سيحدث لو أنطلقت عملية تشييد مبنى أو برج، أو حتى “براكة”، بدون خريطة وبدون مواصفات واضحة محددة؟

هذا على مستوى الهندسة المدنية، أو سمها العمرانية أن شئت.

وكذلك فأن بناء وإدارة الدول (عملية هندسية) معقدة ومتشعبة أكثر من (الهندسة العمرانية)، ومحاولة بناء دولة بدون خريطة، وبدون رؤية، وبدون مواصفات ومعايير واضحة محددة سوف تؤدي الى (عشوائية) أخرى لا تختلف عن العشوائيات الكثيرة المنتشرة في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، وهذا ليس فقط مؤكد بل بديهي ومنطقي ولا يخفي ألا عن من أختار بمحض إرادته أن يعطل سمعه وبصره وعقله.

الخريطة والرؤية والمواصفات والمعايير الضرورية لبناء الدولة، هذه العناصر كلها يضمها ويربطها وينسقها مع بعضها البعض في أطار واحد (المشروع الوطني الحضاري).
والقرار طبعا في يد الملايين التي يفترض أنها هي صاحبة المشروع والتي تتولى حاليا تسديد فاتورة العشوائيات الباهضة، وبإمكان هذه الملايين أن تقرر تجربة جولة أخرى من (العشوائيات)، وهدم العشوائية الحالية وإستبدالها بعشوائية أخرى، وزيد الماء وزيد العشوائيات!

بإمكان الملايين أيضا أن تقرر فرض مشروعها الحضاري النهضوي الهندسي المحدد والموثق والقابل للقياس والذي من شأنه أن يعيد لها الأدمية والأنسانية المفقودة، ولحسن حظ هذه الملايين فأن أسس وملامح هذا المشروع الوطني النهضوي متاحة متوفرة وموثقة تحت أسم (مشروع دولة المواطنة)، وهذه الأسس والملامح ستحتاج الى المزيد من المجهودات لمراجعتها وتطويرها وإنضاجها، والأهم من ذلك ستحتاج الى خروج الملايين الى الشوارع والميادين لفرضها، وبدون ذلك ستستمر العشوائيات، والله غالبا على أمره

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

المزيد من الأخبار

القائمة