مَقــالْ / د.محمد أحمد الشحاتي
قد يتساءل الكثير من الليبيين عن الرقم الذي تم اعلانه كأجمالي مدفوعات النقد الأجنبي من مصرف ليبيا المركزي في بيانه الأخير عن الإيرادات والانفاق وهو 24.5 مليار دولار. أشار المصرف عن عجز 1.6 مليار دولار لتغطية المدفوعات بالنقد الأجنبي حيث كان الايراد 22.9 مليار دولار فقط وقد تم تغطية هذا العجز من احتياطات المصرف بالعملة الصعبة بهدف الحفاظ على استقرار العملة الليبية.
نظريا مصارف العملة الصعبة تنحصر في الأقسام التالية:
أولا: تغطية الواردات من السلع والخدمات
ثانيا: الحوالات الشخصية من اجل السياحة أو الدراسة أو العلاج
ثالثا: مستحقات العاملين الأجانب في القطاعات الإنتاجية والخدمية
رابعا: مستحقات العاملين الليبيين في القطاع الخارجي (السفارات وما في حكمها “طلبة مبعوثون”)
خامسا: التزامات الدولة الليبية الأممية في منظمات مثل الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية أو القضايا الدولية
المصارف أعلاه تقع تحت الدائرة الشرعية أي أنه يمكن للمصرف المركزي أن يقوم بتغطيتها مقابل ما يستلمه من المنتفع بالدينار الليبي وفقا لسعر الصرف المعلن الذي يعتمده المصرف من فترة لأخرى. وفقا للنظرية الاقتصادية فأن ارتفاع قيمة العملة الأجنبية تجاه العملة المحلية يعني انخفاض الطلب على العملة الأجنبية وهذا ما يحفز المصارف المركزية عبر العالم لتعديل سعر العملة المحلية وفقا لآليات توازن الطلب عليها من السوق تجاه العملة الأجنبية.
تخفيض العملة المحلية في النظرية الاقتصادية يهدف إلى تعديل الهيكل الاقتصادي للدولة بحيث يكون أكثر إنتاجية من الناحية التنافسية ويعوض بذلك فرق القيمة بين السلع المستوردة والسلع المنتجة محليا لصالح الثانية، كما أن تخفيض العملة المحلية رغم ما يسببه من انخفاض القوة الشرائية للعملة المحلية نتيجة ارتفاع التضخم المستورد يفترض أن يقلل من الانفاق الحكومي مقاسا بالعملة الصعبة وبذلك يتيح للحكومة أن تجري إصلاحات اقتصادية بالفائض لتعديل الهيكل الإنتاجي للدولة باتجاه زيادة مشاركة القطاع الخاص وتحفيز التنمية وإعادة توزيع الثروة بصورة أكثر عدالة بين الطبقات.
نظريا ومن ناحية اقتصادية لا يوجد داعي لارتفاع الانفاق بالعملة الأجنبية حيث إن الاستهلاك من الواردات لا يتوقع أن يقفز فجأة أخذا في الاعتبار تضاؤل القوة الشرائية محليا نتيجة خفض قيمة الدينار الليبي، هذا من ناحية أم من الناحية الأخرى فأن توفر الفائض النقدي نتيجة انخفاض الانفاق الحكومي المفترض “مقوما بالعملة الأجنبية” يفترض أن يوجه للمصارف التنموية بدلا من توجيهه للاستيراد من الخارج.
الحقيقة أن تصميم نموذج دراسي أكاديمي لتحليل هذه الظاهرة صعب في الحالة الليبية نتيجة غياب الكثير من الاحصائيات الدالة على هذه الاتجاهات. الأسئلة التي يمكن أثارتها هنا هي:
أولا: تجاريا: ما أثر حركة الواردات على الانفاق بالعملة الأجنبية؟
ثانيا: إداريا: ما أثر التحويلات الشخصية سواء من المواطنين أو الأجانب على الانفاق بالعملة الأجنبية؟
ثالثا: حكوميا: ما أثر الدخل النفطي السنوي على الانفاق بالعملة الأجنبية؟
الافتراض هنا إن استقرار سعر صرف الدينار الليبي يأتي عبر استطاعة المصرف المركزي تغطية كل الطلبات من العملة الأجنبية من ناحية الكم ومن ناحية الوقت على السواء. أي اضطراب في هذه التغطية ستؤدي فعليا إلى نشوء سوق موازية تكون أعلى سعرا من سعر الصرف الرسمي.
الواضح وفقا لتتبع حركة سعر الصرف خلال سنة 2021 فأن المصرف المركزي لم يستطيع تماما الإيفاء بكل الطلبات من العملة الأجنبية في نفس توقيتات طلبها ما أنتج استمرار للسوق الموازي بنسبة أعلى من السوق الرسمي. صحيح أن هذه النسبة انخفضت كثيرا بعد تعديل سوق الصرف، ولكنها لم تختف تماما. هذا يقودنا للاستنتاج أن الرقم 24.5 مليار دولار لم يكن كافيا لفرض الاستقرار الكلي على سوق الصرف، وبالتالي يقودنا إلى مناقشة السياسات التجارية الحالية ومدى فعاليتها في استقرار سعر الصرف.
أركز هنا على مناقشة تطور الواردات للسوق الليبية لمعرفة أثرها على سعر الصرف. تلاحظون في الرسم المرفق أن الواردات الليبية في عقد التسعينات كانت مستقرة إلى حد كبير تقريبا حول مستوى 6 مليار دولار سنويا الذي كان يعادل 2 مليار دينار بالسعر الرسمي. هذه الظاهرة تقريبا كانت ظاهرة دولية في عالم كانت فيه التجارة الدولية مثقلة إلى حد بعيد بالرسوم الجمركية والبطء التقني في استحداث سلع وخدمات جديدة وانخفاض في أسعار السلع الأولية مثل النفط، ما أفرز وضعا اقتصادا يتميز بالتضخم المتصاعد الذي قاد إلى سياسات نقدية متشددة وصلت فيها أسعار الفائدة في الدول الصناعية إلى أكثر من 10%. في هذه البيئة لم يكن على الحكومات بذل الكثير من الجهد لكبح طلبات شعوبها فالسلع المتقدمة تكنولوجيا باهظة الثمن أصلا وغير متاحة ألا لطبقات معينة هي محصورة في البلدان النامية (جهاز الهاتف الأرضي مثلا استمر بنفس التقنيات منذ بداية السبعينات إلى منتصف التسعينات، فكان يكفي أن يشتري صاحب المنزل جهاز هاتف واحد كل عشر سنوات للعائلة كلها).
بداية من منتصف التسعينات وبعد التغير الجذري في السياسات التجارية العالمية وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية وبدء الحركة الفعلية لقطار العولمة بدأت التجارة العالمية تتوسع بشكل كبير وانسابت السلع التكنولوجية الرخيصة لتغزو جميع الطبقات في مختلف الدول. هذا تلازم مع ارتفاع أسعار المواد الأولية وزيادة قدرة كثير من الدول النامية على رفع فاتورة وارداتها إلى مستويات غير مسبوقة. في هذه البيئة ارتفعت فاتورة الواردات الليبية إلى لتصل في سنة 2010 إلى 25 مليار دولار سنويا وكان المتوسط للفترة 2000-2010 يساوي 12 مليار دولار سنويا. لم تستطيع الدول مجاراة الارتفاع الهائل في الحركة التجارية ولم تعر الأجهزة الحكومية الليبية اهتماما للتصاعد المتناهي السرعة في قيمة الواردات لأن الميزان التجاري كان دائما موجبا بدون أي عجز نتيجة لقوة سعر النفط. للغرابة فأن دولة مثل تونس لم تستطيع أيضا التحكم في ارتفاع قيمة فاتورتها من الواردات بالرغم من أنها كانت تعاني من عجز في الميزان التجاري، فقد ارتفعت قيمة وارداتها من 6.5 مليار دولار في سنة 2000 لتصل إلى 21.5 مليار دولار في سنة 2008 بنفس النسق مع الدول الأخرى.
وقد وضعت مقارنة بين ليبيا وتونس والكويت وهي دول تتقارب مع الاقتصاد الليبي في نواحي متعددة. وستجدون من الرسوم المرفقة عدة معطيات هي:
أولا: أن اتجاه ارتفاع فاتورة الاستيراد استمر حتى منتصف العقد 2010-2020 هذا تزامن مع استمرار انسياب السلع بدون تكاليف كبيرة سواء من قيمة العملة الأجنبية (رجوعا إلى سياسات التسهيلات الكمية التي انتشرت عبر العالم) أو من تكاليف سلاسل العرض.
ثانيا: قوة أسعار السلع الأولية وخصوصا لدى الدول النفطية حتى أن ليبيا تجاوزت الكويت خلال سنوات 2012-2014
ثالثا: أن وطأة العجز التجاري إضافة إلى الكساد الاقتصادي الذي أصاب تونس أدى إلى خفض مهم في فاتورة وارداتها، وهو ما انعكس على ليبيا أيضا نتيجة اغلاق النفط.
رابعا: أن قيمة الواردات بالنسبة للفرد هي أعلى في الكويت، ولكنها مستقرة حول 8000 دولار للفرد سنويا وكذلك في تونس حول 2000 دولار سنويا. أما بالنسبة لليبيا فهي متقلبة نتيجة لعوامل عديدة ويمكن القول إن مستوى 4000 دولار للفرد سنويا قد يكون مستوى توازني وفقا للدخل النفطي.
خامسا: عندما نأخذ من الواردات صنفي السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية بصفتهما أهم أصناف تتحكم في نسبة الواردات غير المرنة يمكن استخلاص ما يلي:
1. إن اعتماد ليبيا على واردات السلع الغذائية هو 25% من اجمالي قيمة الواردات وهو نسبة أعلى من الكويت وتونس
2. إن اعتماد ليبيا على واردات السلع الاستهلاكية هو 56% من اجمالي قيمة الواردات وهو كذلك نسبة أعلى من الكويت وتونس
3. هذا قد يدل مبدئيا على أن ليبيا تعتمد أكثر على واردات السلع الاستهلاكية مقارنة بتلك التي تستعمل في العملية الإنتاجية التنموية
أخيرا لا توجد معلومات منشورة عن تطور الواردات في سنتي 2020 و2021 سواء من المصادر المحلية أو المصادر الدولية، ولكن هناك رقم 24.5 مليار دولار كمدفوعات نقد أجنبي صادر عن المصرف المركزي. إذا ما افترضنا ثبات الاستخدامات الشخصية والالتزامات الدولية التي لا أعتقد أنها سيكون فيها الاختلاف كبير فأن معظم المدفوعات ستكون موجهة نظريا إلى الواردات.