مَــقالْ / د.محمد أحمد الشحاتي
هل ندعم السجائر أم الغذاء؟
نفتقد في ليبيا الاحصائيات الدقيقة عن مناحي كثيرة في الحياة، وهذا يقود إلى تخبط صناعة القرار وتأخر في اتخاذ رد الفعل في الاحداث المفاجئة. الحرب الروسية الأوكرانية سواء كان مخطط لها أم لا فأن حدوثها أدى إلى انعكاسات كبيرة على أسعار الغذاء والطاقة في العالم. جميع دول العالم اتخذت إجراءات سريعة للتحكم في التضخم الذي سيحدث نتيجة هذه الانعكاسات بما فيها تعديل سياستها التجارية في تصدير واستيراد هذه المواد الحيوية للاقتصاد الوطني.
في سنة 2010 تخلت الدولة عن معظم مسئوليتها تقريبا في إدارة تسعير المواد الغذائية في النظام الاقتصادي الوطني ووضعنه في إطار المنافسة التجارية. بدون سياسة تجارية واضحة تتحكم في توجيه الاستهلاك الفردي المحلي أو نشاطات إعادة التصدير (الشرعية أو التهريب) مع غموض قنوات التوزيع للمستهلك المحلي، فقد دخل القطاع التجاري مرحلة من العبث والتخبط بسبب عدم وجود سياسة تجارية واضحة.
المسألة هنا لا تتعلق بالجدل الدائر حول الرأسمالية والاشتراكية، بل بتنظيم الاستيراد والتوزيع وإعادة التصدير وهي مسائل تطبق في أكثر الدول اعتناقا للمبدأ الرأسمالي في الاقتصاد. صحيح أن التحكم في التضخم هو مسئولية السلطة النقدية الممثلة في المصرف المركزي الذي يضع سياسات سعر الصرف وسعر الفائدة المتحكمة في عرض النقود وبذلك يضع الحدود التي يمكن أن يتحرك فيها التضخم ألا أن السياسة المالية والسياسة التجارية للدولة تتحمل جزء كبير من عبأ وضع التضخم في حدوده المعقولة.
لعدم وجود مصادر محلية لتصنيف الواردات واتجاهات الاستيراد بشكل عام استعنت بإحصائيات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) وهي موجودة على الرابط التالي. قد يدور جدل حول صحة البيانات، ولكن المنظمة توضح مصادرها في رصد وتجميع البيانات وشخصيا أنا مطمئن للمنهجية التي تتبعها. وقد أخترت الأصناف الغذائية شديدة الأهمية للشعب الليبي في ثلاث سنوات هي 2010، 2019، 2020 وهي تعكس عدة حقائق مميزة في تطور الاقتصاد الليبي لهذه الفترة.
بدون إطالة الخلاصة يمكن الاستنتاج أن انسحاب الدولة بالشكل الذي تم أدى إلى اتجاه الاستيراد للسلع منخفضة المنفعة للسوق الليبي مثلا ارتفعت واردات السجائر من 20 مليون دولار في سنة 2010 إلى 573 مليون دولار في سنة 2020. طبعا لا يمكن القول إن هذا يرجع إلى ارتفاع في سعر السجائر أو الزيادة في استهلاكها، لكن في أغلب الظن يرجع إلى عمليات إعادة تصديرها، وهذا مؤسف للغاية حيث يتم سحب موارد مالية كان يفترض تخصيصها لسلع غذائية أكثر نفعا أو حتى استعمال الفائض في الدعم الحكومي المباشر وترك أسعار السجائر لترتفع بحرية. هناك انخفاض ملحوظ في قيمة واردات الحليب الطازج بالرغم من عدم انخفاض أسعاره الدولية وهذا يؤدي إلى ارتفاع أسعاره المحلي، قد ترجع أسباب الانخفاض إلى عوامل كثيرة منها العوامل اللوجستية مثل النقل والتبريد والتخزين ألا أن ذلك يؤثر على سعر البيع بحيث يرتفع مقارنة بالأسعار العالمية، هنا لا يجدي إلقاء اللوم على السوق العالمية فحسب، بل أيضا على الآليات التجارية المحلية المسؤولة عنهم الدولة. هناك أيضا ارتفاع كبير في قيمة واردات زيت دوار الشمس وأظنه لا يرجع إلى نمو الاستهلاك المحلي بهذا الشكل، بل قد يعود إلى عمليات إعادة التصدير.