د. محمد أحمد
هناك أراء كثيرة في نتائج الانتخابات الامريكية، رأي سياسي محلي، رأي سياسي دولي، رأي ديني، رأي مذهبي، رأي اجتماعي، رأي اقتصادي، رأي أخلاقي، رأي عاطفي، رأي انتهازي، رأي شمامتي، رأي فكاهي، رأي صحفي، رأي تلفزيوني، رأي تاريخي، هذا تلخيص ما قرأته أو سمعته أو شاهدته من عدة مصادر. كل رأي يدافع عن مبرراته من منطلق قناعاته الخاصة وتصوره للمستقبل الذي يمكن أن يخلق وفقا للتغيير الذي حدث والذي سيحدث بغض النظر عن إمكانيات أصحاب الرأي أنفسهم في قيادة هذا التغيير لصالحهم، والذي في الحقيقة أشك كثيرا أنه سيتطابق مع أغراضهم.
من ناحية شخصية طبقية أميل دائما لليسار المعتدل في السياسة أو بما يسمى بيسار الوسط على المستوى الدولي وهذا يعني أنني أميل للمرشح الذي يمثل هذا التيار السياسي عاطفيا في أي انتخابات تجرى في أي دولة وهذا يعني أنني أميل إلى مرشح الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة أو العمالي في بريطانيا كما أنني لا أتحمس للديغوليين في فرنسا وأكره فيها اليمين المتطرف كما أكره الفاشية اليمنية في إيطاليا أو ألمانيا وكذلك في تركيا. لسوء الحظ فأن الخبرة العملية لسنوات طويلة وتنقلي للعيش في عدة بلدان أوضح لي أن الشعارات شيء والافعال شيء آخر تماما. أتذكر مثلا حين كنت طالبا في بريطانيا كيف كنت متعاطفا مع توني بلير عندما ترشح عن حزب العمال في بريطانيا ونجاحه بتفوق على المحافظين الجامدين هناك، لأكتشف بعدها أن توني بلير حكم بريطانيا كممثل عن حزب المحافظين داخل حزب العمال ليس أكثر. وكانت تجربة توني بلير هي عبار ة عن إعادة لتجربة بيل كلينتون في الحكم عندما أدار الرئيس الديمقراطي الأمور في الولايات بنموذج جمهوري لا علاقة له على الاطلاق بالبرامج التاريخية للحزب الديمقراطي.
ومن هنا فأن النظريات السياسية التي تربط بين مصير أوضاعنا السياسية والاقتصادية في الوطن العربي سواء بالمجمل أو لكل دولة على حدة بنتائج الانتخابات في العالم الصناعي المتقدم تبقى مهزوزة إلى حد كبير وتدل على السذاجة السياسية نوعا ما. وليس سرا أن بعض الدول العربية حاولت تنظيم لوبيات ضغط بالتعاون مع الجاليات المسلمة أسوة باللوبي الصهيوني المقابل للتأثير في نتائج الانتخابات الامريكية سواء الرئاسية أم النيابية بدون أي نتيجة ملموسة. السبب الرئيسي يعود إلى صغر حجم التأثير العربي في اقتصاد ضخم بحجم الولايات المتحدة أما السبب الآخر المضحك بالإضافة إلى ضعف التأثير هو عدم اتفاق السياسيون العرب عمن يجب أن يتم تأييده من الامريكان لخدمة قضاياهم.
المعركة الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة شملت مواضيع متعددة سياسية، اقتصادية، اجتماعية، صحية، أخلاقية، شخصية، ولكن لم يكن فيها جوهر الاختلاف متباينا بدرجة حادة ليتبين للمنتخب لمن سيعطي صوته وفقا لقناعاته. أقول إن الأمر كان أكثر شخصيا ومن هذا المنطلق ركزت الحملة الديمقراطية على الممارسات الأخلاقية والاجتماعية لشخصية الرئيس الجالس، وتفادت تماما تحديه في نقاط قوته الاقتصادية والسياسية.
الواقع الاقتصادي حقيقة هو من يحكم وليس الأشخاص. ووفقا للمعطيات الحالية فأن الرئيس الديمقراطي لن يحكم بمبادئ الحزب الديمقراطي المثالية بل سيكون في الحقيقة أكثر اخلاصا لتوجهات الحزب الجمهوري البراغماتية سواء منها السياسية أو الاجتماعية. فحجم المناورة في المجال الاقتصادي ضيق جدا نتيجة الوقائع الاقتصادية التي تبينها المؤشرات والاحصائيات الحالية.
قد يحاول الرئيس الديمقراطي أن يتحدى المنطق الاقتصادي الجمهوري في بعض المنحنيات ولكن سيكون رد الفعل سلبيا إلى أقصى درجة. الموضوع الرئيسي اليوم وفي ظل جائحة كرونا يدور على الصحة العامة للمجتمع وعلاقتها بالتوظيف والبطالة. هو موضوع اقتصادي اجتماعي بامتياز وقد تمكن الحزب الجمهوري من تنفيذ سياساته به بحكم اعتلاؤه سدة الإدارة لدى تفجر الازمة. المنطق الاقتصادي الجمهوري واضح فهو يتحدى أسلوب الاغلاق الشامل ويضحي إلى حد كبير بسلامة عدد كبير من الأفراد لوقف التراجع الاقتصادي. سيحكم التاريخ أن هذا كان أسلوبا قاسيا في هذه المواجهة مثل ما حكم على قسوة الملوك الفراعنة في تشييد الاهرام، ولكنها اليوم مصدر هام من مصادر الدخل السياحي في مصر. المبادئ الديمقراطية قد تشير إلى طريقة مختلفة في المواجهة تتمثل في تخصيص جزء أكبر من الموارد العامة للحفاظ على الأرواح أولا قبل التفكير في بناء الاهرام. في رأيي فأن مهما حاول رئيس ديمقراطي من تزيين مقترح بالخصوص فلن يخرج عن إطار السياسة الجمهورية القاسية والتي فرضها ترامب ممكن بوقاحة بينما سيفرض بايدن أقسى منها برطوبة. السبب سهل جدا وهو عدم وجود موارد عامة يمكن تخصيصها لهذه المواجهة بالطريقة الديمقراطية المثالية.
بشكل عام فأن تحدي تخفيض الانفاق الحكومي هو السبيل الوحيد لمحافظة الولايات المتحدة على تفوقها الاقتصادي العالمي. أي برنامج يؤدي إلى زيادة هذا الانفاق مهما كان جميلا ومثاليا ومتسق مع المبادئ الإنسانية العليا سيعني بدون جدال هدم الاهرام الأمريكي وتفوق دول منافسة أخرى عليه. هذه الفترة هي مفترق طرق للولايات المتحدة في سباقها الاقتصادي الدولي ولن يسعها أن تقدم أي تنازلات اقتصادية على المستوى المحلي بشكل عقلاني. هنا قد يخدم الحظ الرئيس الجالس بتوفيره لقاح مثلا ضد الوباء وينهي المشكلة بشكل كبير ويتيح له جزء من الموارد العامة التي كانت لتصرف على علاج الإصابات من هذا الوباء في برامج اجتماعية مثلا إعادة تفعيل برنامج أوباما كير الصحي.
على مستوى الاقتصاديات الدولية لا يبدو ان الديمقراطيين لديهم أي تصور عن كيفية مختلفة لإدارة النزاع التجاري مع الصين الامر الذي يبدو انه سيزداد حدة نتيجة الاثار الاقتصادية السلبية لجائحة كوفيد-19. فعدم سقوط الصين في فخ الكساد واستمرارها كقاطرة للاقتصاد الإقليمي في شرق آسيا يرجح بشدة استمرار غزوها للأسواق العالمية مع تراجع واضح للمنتج الأمريكي التقليدي. وبينما فجرت الإدارة الجمهورية للبيت الأبيض مشكل التنازع التجاري بشكل كبير مع المنافسة الشرقية فأي إدارة قادمة سيصعب عليها أن تتراجع في هذا النمط التواجهي قبل أن تحصل على تنازلات صينية تتعلق بمرونة أكبر في سعر الصرف وفتح الأسواق المحلية للمنتجات الامريكية. هذه المواجهة التجارية يمكن أن تقود إلى أزمة اقتصادية عالمية تدفع بكثير من الدول إلى الوقوع في كساد اقتصادي نتيجة انحسار التجارة.
وفي خصوص أسواق الطاقة فأن هامش المناورة أمام الديمقراطيين أوسع قليلا بسبب علاقة الطاقة بظاهرة التغير المناخي وموقف الولايات المتحدة منها. موقف الديمقراطيين يميل إلى المساهمة أكثر في الجهود العالمية من أجل تخفيض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون مع الاحتفاظ بفارق عن حدية الموقف الأوربي المضاد للاستمرار في الاعتماد على الوقود الاحفوري كمصدر للطاقة. في المدى القصير سيكون هناك تركيز على مدى جدية إي إدارة ديمقراطية في تقنين انبعاثات الكربون خصوصا في التوسع في منح الامتيازات الإنتاجية للنفط الصخري وغيره. تحديد هذه الامتيازات أو تخفيضها سيقود على تحديات على مستوى الصناعة وكذلك على مستوى الامن القومي والوضع الاقتصادي عندما ستنخفض الصادرات الهيدروكربونية وربما سترتفع بعض الواردات لتضع ضغطا على الميزان الجاري المثقل أساسا بدرجة لا تسمح بوضع أثقال أخرى.
وبالرغم من كل التحليل أعلاه الذي يفيد بضيق هامش المناورة الاقتصادية أمام المنتخب ما سيجعله امتداد للخط الاقتصادي الحالي ألا أن التوجه إلى اليسار السياسي في أمريكا أو حتى في أوربا تاريخيا وفي كل العهود أنتج اختلالا بنيويا في هيكلية الاقتصاد احتاج معه عودة اليمين لإصلاحه بشكل أكثر تطرفا سياسيا في فترات لاحقة وهو ما يفسر تصاعد اليمين المتطرف في أوربا اليوم وقفزته الأخيرة في أمريكا.