قراءات في النشرة الربع سنوية (3) لسنة 2021 الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي عن عرض النقود، السيولة، سعر الصرف والأصول الاجنبية

مَــقالْ / د.محمد أحمد الشحاتي

صدر عن إدارة البحوث والاحصاء بمصرف ليبيا المركزي مؤخرا النشرة الاقتصادية للربع الثالث من سنة 2021. هذه النشرة الإحصائية هي من أحد أهم النشرات الاقتصادية الموثوقة التي دأب المصرف المركزي على إصدارها بصورة دورية مستمرة وتحتوي على العديد من المؤشرات الاقتصادية الهامة التي تغطي نشاط المصرف المركزي كما تضم أيضا معلومات مستقاة من وزارة التخطيط ووزارة المالية والمصلحة العامة للإحصاء والتعداد ووزارة النفط عن أهم المؤشرات التي تتعلق بالدخل القومي من ناحية الايراد والنفقات. أود في هذا البوست أن أحيي الاخوة القائمين على هذه النشرة في إدارة البحوث والاحصاء بالمصرف المركزي خصوصا في هذه الفترة الصعبة التي تتسم بالضبابية والفوضى وعدم التنسيق بين أجهزة الدولة.


سوف أركز في هذا البوست على جدولين وهما:
…………..جدول 3 العوامل المؤثرة في عرض النقود
…………..جدول 3 تابع عرض النقود
الجداول مرفقة بالبوست ويمكن الاطلاع على النشرة كاملة في صفحة المصرف المركزي


في الحقيقة هذان الجدولان لا يعطيان فقط أرقام مجردة، بل بقليل من التحليل يمكن قياس أداء وكفاءة إدارة المصرف للسياسات النقدية في الفترة التي تغطيها الاحصائيات. إدارة البحوث والاحصاء عادة لا تعطي تحليلات وقتية في هذه النشرة ويمكن أن تكون هناك أوراق عمل دراسية خاصة لبعض القضايا في قسم آخر من صفحة المصرف، ولكن في الآونة الأخيرة لم نشهد أوراق جديدة.
الازمات الحالية التي يمر بها الاقتصاد الليبي تحتاج إلى الكثير من البحث والدراسة لتحديد طبيعة المشاكل التي يمر بها واكتشاف السببية causality وتشخيص هذه المشاكل ومن هنا يمكن اقتراح طرق العلاج والحل. الحقيقة أن الأجهزة المختصة بما فيها المصرف المركزي يلقون باللوم على الفوضى الأمنية والسياسية التي يمر بها البلد ويفترضون أن سبب كل الازمات يرجع لفترة عدم الاستقرار. ربما كان هذا صحيحا في جزء كبير منه، ولكنه ليس الحقيقة. القضية السياسة والأمنية تشغل حيز كبير من السبب، ولكن القرارات الخاطئة وعدم استباق الازمة باحتياطات لنقل المخاطرة بدون شك سبب في إطالة أمد الازمة وسيواصل ذلك إذ لم يكن هناك اعتراف من السلطات المختصة بوجود عيوب في مواجهة الازمات وهو ما سوف نناقشه في هذا البوست.


غني عن القول إن من أصعب المفترقات الاقتصادية هي المرحلة التي تتبع تغيير سعر الصرف للعملة المحلية لدولة ما. فتغيير سعر الصرف لا يجب أن يكون فقط استجابة لضغوط مصلحية من فئة معينة من المجتمع ليتماشى مع مصالحهم ولا يجب أن يكون تنازلا للسلطة التنفيذية لحل مشاكل الديون والمرتبات وتكاليف الانفاق العام. في الفترة التي سبقت تغيير سعر الصرف تم تزيين هذه الخطوة للمواطن الليبي حيث تم تصويرها له بأنها السياسة المطلوبة لتخفيض التضخم بنسب 30% وزيادة الرواتب بنسب أكثر من 50%، وأنها الخطوة المطلوبة للقضاء على فساد الاعتمادات وبزنس تحويل الأموال وغيرها وأخيرا أنها خطوة مبدئية لتطبيق النظام الزاحف لتقوية سعر العملة تدريجيا بعد اختفاء كل المشاكل السابقة. وبالرغم من إن الكثير من الاقتصاديين اعتبروا أن تغيير سعر الصرف أو تعديله هو خطوة مهمة للوصول إلى التوازن الاقتصادي خصوصا بعد فترة من الاضطرابات الاقتصادية ألا أنهم ربطوا موافقتهم وفقا لحسابات دقيقة بضرورة تعديل السياسات المالية في التحكم في الانفاق العام والتجارية في التحكم في عمليات التصدير والتوريد والسياسات النقدية في ضرورة التحكم في عرض النقود حتى لا يكون تغيير سعر الصرف عبئا إضافيا على المواطن على المدى القصير كما المدى الطويل.
ملاحظة أخرى وجب التنويه عنها وهي أنه بالرغم من القيمة العالية لنشرة مصرف ليبيا المركزي في التعريف بالمؤشرات الاقتصادية التي يمكن استعمالها في التحليل المالي والاقتصادي ألا أن الجمهور سينتظر الإصدار الرسمي للحسابات الختامية للمصرف والتي يجب أن تكون مدققة محاسبيا من طرف ثالث (لا أود شخصيا أن يكون شركة ديلويت بل أفضل شركة مراجعة وطنية نزيهة) حتى يقيم بصورة محايدة تماما الأداء الإداري للمصرف وتصرفه في الأصول الأجنبية وتوقيت قراراته في السحب والايداع بما يتناسب مع الظرف الاقتصادي والسياسي الذي تمر به البلد.
أولا: العملة لدى الجمهور ومشكلة السيولة


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمكن ملاحظة الزيادة الكبيرة للعملة لدى الجمهور خلال الفترة حيث ارتفعت من مستوى 18% من اجمالي عرض النقود في 2009 إلى 33% في 2021. وبالرغم من تغيير سعر الصرف الذي كان يؤمل منه تخفيض العملة لدى الجمهور وذلك بسحب هذه السيولة ببيع الدولار ألا أن التقدم في ذلك محدود للغاية حيث بقا مستوى هذا البند في المدى 31-33% من اجمالي عرض النقود كما هو واضح في الرسم المرفق. السياسة النقدية مطالبة بتخفيض هذا المستوى على الأقل لحدود 20% ويبدو من التجربة العملية أن مخاطرة المصرف المركزي بتخفيض قيمة الدينار لرجوع النقود لتكون ودائع في المصرف لم تنجح. نسبة الودائع المطلوبة عي تقريبا 80%، ولكنها لم تستطيع اختراق نسبة 68% كما هو واضح من الرسم. لا توجد دراسات هنا، ولكن الكثير من الاقتصاديين نبهوا عند تغيير سعر الفائدة أن المصرف المركزي لا يملك أدوات تعقيم حركة النقود بافتقاده آلية سعر الفائدة ووصوله إلى الحد الأقصى من الاحتياطي الالزامي للبنوك التجارية وعدم سيطرته المحكمة على الكثير من البنوك. التسرب النقدي رجوعا إلى الجمهور لم يكن بالإمكان تفاديه بسياسة تغيير سعر الصرف وبذا فأن المليارات التي تم وضعها في سوق الصرف حقيقة لم تؤد إي نتيجة إيجابية هنا على الأقل هذا ما يقوله التقرير الحالي. الحل من ناحية نقدية هي أما زيادة طبع نقود جديدة وإضافة ضغط تضخمي على الاقتصاد أو زيادة السحب من العملة الصعبة وهي لعبة مضاربة بامتياز يتقنها المضاربون على دفاع المصرف عن قيمة العملة المحلية. لذا سنرى أن المصرف المركزي كما سنشرح لاحقا عندما نناقش الأصول الأجنبية أضطر لسحب 2.5 مليار دولار من رصيد الأصول الأجنبية في الربع الثاني من السنة 2021 لمقابلة المضاربة على قيمة الدينار.
يحتاج الجمهور هنا أن يعرف خطط المصرف المركزي لتعديل هذا البند بعد تغيير سعر الصرف في ظل البيانات غير الإيجابية المنشورة في التقرير. بالتحديد فأن الجمهور يود أن يعرف ما هي وسائل تعقيم السيولة الإضافية غير السعر المنخفض للدينار أو السعر المرتفع المحتمل للنفط. فالسبب المرجح لعدم اضطرار المصرف المركزي للسحب من الأصول الأجنبية يرجع إلى الارتفاع الكبير في سعر النفط في الربع الثالث من 2021 حيث سجلت الأسعار النفطية معدل 70 دولار/برميل مما زاد التدفق النقدي للمصرف بطريقة لم تكن متوقعة. المشكلة هنا أن المضاربون سيستوعبون هذه الزيادة وسيضغطون على المصرف في مرحلة لاحقة بزيادة مشترياتهم من العملة الصعبة. ينبغي هنا أن نؤكد أن هذا السلوك المضارب ليس مقصود به ليبيا على وجه التحديد، بل هو أساسيات تجارية منتشرة ومعروفة.

ثانيا: الأصول الأجنبية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعبت الأصول الأجنبية دورا كبيرا في استقرار النظام النقدي في ليبيا ودعم قيمة العملة المحلية مقارنة بما حدث في دول أخرى لم تكن تملك ما يكفي من الأصول لمنع انهيار قيمة عملتها المحلية مثل ما حدث في العراق، الجزائر، السودان، فنزويلا وغيرها من الدول. السياسة التي اتبعتها أجهزة الدولة طوال التسعينات والعقد الأول من هذا القرن في تجنيب جزء من العوائد النفطية وبناء احتياطات نقدية كبيرة من العملة الصعبة لا شك أنها كانت حجر الأساس في تجنب نتائج كارثية على الاقتصاد المحلي وعلى قيمة الدينار الليبي.
وفقا للنشرة الاقتصادية خلال العقد الحالي تم سحب 66.5 مليار دولار من الاحتياطي في عدة سنوات مشار إليهم بالأعمدة الحمراء في الرسم المعنون الأصول الأجنبية لمصرف ليبيا المركزي، بينما تم إضافة 28.6 مليار دولار في سنوات أخرى مشار إليهم بالأعمدة الخضراء في نفس الرسم، الحصيلة الصافية هي سحب 37.8 مليار دولار مقارنة بالموجودات لسنة 2010.
السؤال هنا من ناحية اكاديمية هي أن السحب من الأصول الأجنبية تم لمقابلة الالتزامات المحلية في الانفاق، ولكن رغما عن ذلك فقد شهدنا تراجعا كبيرا لقيمة الدينار الليبي من 1.4 دينار/دولار إلى المستوى الحالي 4.48 دينار/دولار. نحتاج هنا أن نثبت من ناحية عملية كم كان الفاقد في هذا التراجع. على سبيل المثال ووفقا لصحيفة وول ستريت جورنال قدر أحد عقود المبادلة المستقبلية أن تركيا خسرت من احتياطها بالعملات الأجنبية ما قيمته 50 مليار دولار في سنة 2021 للدفاع عن قيمة عملتها. هناك الكثير من المتغيرات بالطبع فتركيا لم تتوقف عن الإنتاج تماما بالرغم من أن أثر كوفيد-19 سبب ضررا بالغا باقتصادها مقارنة بليبيا التي فقدت كثير من العوائد النفطية لسنوات متتالية، كما أن العملة الليبية لا يتم التداول بها في البورصات العالمية، ألا أن المحاولة جديرة بالتنفيذ لأن خسارة 66 مليار دولار من الأصول الأجنبية نظريا كان يفترض أن يساهم في دفاع أفضل عن قيمة العملة الليبية.
هنا يمكن أن نضع خطا تحت السحب الذي تم في الربع الثاني من سنة 2021 بقيمة 11.4 مليار دينار أو ما يعادل 2.5 مليار دولار في وقت لم تتوقف فيه الإيرادات النفطية عن الانسياب وهو موضح في الرسم أدناه. في ظل غياب الأسباب لا يمكن لي ألا أن أخمن أن هناك موجة قوية من الطلب على العملات الأجنبية أضطر المصرف أن يقابلها بالسحب من الاحتياطي الذي يملكه وألا كان ذلك سيسبب في ارتفاع كبير في السوق الموازي وقد يتطور الأمر خارج سيطرة المصرف المركزي. هذه لعبة مضاربة معروفة ومدروسة في جميع الادبيات الاقتصادية وبالمناسبة هي مرشحة للعودة تكرارا. الرصيد الحالي للأصول الأجنبية وفقا للنشرة هو 343 مليار دينار بينما ما كان يجب أن يوجد في الحساب هو 354 مليار دينار إذا لم يتم سحب 11 مليار دينار في الربع الثاني من 2021.

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

المزيد من الأخبار

القائمة