قدم معهد الأمم المتحدة الإقليمي لأبحاث الجريمة والعدالة بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أرقاما ضخمة عن الأضرار الفادحة، التي تكبدتها ليبيا جراء التدفقات المالية غير المشروعة غير الخاضعة للرقابة مقدرا متوسط الخسارة السنوية بـ 1.2 مليار دولار.
واشتملت الدراسة الصادرة مطلع هذا الأسبوع عن المعهد الأممي تحت عنوان «التدفقات المالية غير المشروعة واسترداد الأصول في دولة ليبيا» على الأسواق غير المشروعة وهي الاتجار بالبشر، وتهريب المهاجرين والأسلحة والمخدرات والنفط والبنزين والديزل، وتمويل الإرهاب، إلى جانب تداخلات الفساد، وغسيل الأموال، بعدما شكلت الثورة الليبية العام 2011 نقطة محورية في تطور الفساد والجريمة المنظمة في البلاد وجوارها الجنوبي.
وتميز الدراسة بين نوعين من الفاعلين الإجراميين الأكثر نفوذا في ليبيا، وهما جماعات مشكلة على نمط المافيا، وجهات فاعلة في أجهزة الدولة، حيث تسيطر تنظيمات مختلفة من الميليشيات على عديد المناطق، وهي متورطة بشكل كبير في تهريب المخدرات والمهاجرين والاتجار بالبشر وتهريب النفط.
مافيا تهريب المهاجرين تجني ما يقارب 236 مليون دولار
وبخصوص تهريب المهاجرين، أكد المعهد صعوبة تحديد أرباح العصابات المتاجرة بهم أو معرفة الجهة الرابحة. فعلى طول الطرق العابرة للصحراء أصبح تسهيل مرورهم مربحا للغاية بالنسبة للجماعات المسلحة، حيث تجني هذه الأنشطة إيرادات سنوية تقدر بـ450 إلى 765 مليون دولار منها 89 إلى 236 مليون دولار في ليبيا لوحدها.
واستنادا إلى أعداد المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا في العام 2016، ومستويات الأسعار التفصيلية لمختلف مراحل السفر، من الممكن حساب الإيرادات والأرباح التي تجنيها الجماعات المسلحة على مختلف الأصعدة، إذ يبلغ متوسط الأسعار التي يتم تحصيلها انطلاقا من ليبيا وصولا إلى الساحل الشمالي الغربي من 300 دولار إلى 500 دولار، إضافة إلى 250 دولار للإبحار.
نحو 30 مليون دولار قيمة تهريب الأسلحة
وتعد الدراسة ليبيا سوقا ونقطة عبور للأسلحة وتجارتها غير المشروعة. مع انخراط الجماعات المسلحة الليبية في تهريبها، ورغم أن التدفقات الخارجة تظل متواضعة، وتتكون بشكل رئيسي من أسلحة صغيرة وأسلحة خفيفة، فإن المعدات التي تدخل ليبيا أصبحت ذات طبيعة معقدة بشكل متزايد. مشيرا إلى قدرة الحكومة الليبية المحدودة في السيطرة الفعالة على الأراضي الصحراوية الشاسعة في ليبيا؛ ما ساهم في خلق ملاذ لتهريب الأسلحة، وأكد أن هذا الافتقار إلى السيطرة على مخزونات من قبل قيادة وطنية.
وأفاد معهد الأمم المتحدة أن وجود مجموعات منظمة تتاجر بالأسلحة وتنشط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والأسواق الافتراضية يزيد من التوافر العام للأسلحة والذخائر في ليبيا. مقدرا قيمة تجارة السلاح الليبية في فترة ما بعد الزعيم الراحل معمر القذافي بنحو 15 إلى 30 مليون دولار سنويا ، وإن كانت القيمة الحقيقية قد تكون ضعف هذا الرقم؛ بسبب عدم اليقين بشأن كميات الأسلحة التي يتم تداولها.
صلات بين شبكات تهريب المخدرات الإيطالية والهندية
وعلى نفس المنوال، فإن تجارة المخدرات الاصطناعية في ليبيا هي الأخرى جريمة متفشية؛ بسبب تزايد انتشار عقار «الترامادول» وغيره من الأدوية الموصوفة، التي يتم تهريبها من الخارج عبر موانئ البلد، وكذلك عبر حدودها الجنوبية. حيث يتلقى جنوب ليبيا شحنات من المنطقة الساحلية الليبية وكذلك من البلدان المجاورة على الحدود. ويبدو أن ليبيا تمثل البوابة الرئيسية للترامادول إلى المنطقة، سواء للاستهلاك المحلي أو للعبور و الاتجار نحو دول أخرى. فيما تعد إيطاليا نقطة عبور مهمة ما يشير إلى صلات محتملة مع المافيا الإيطالية وأيضًا مع جماعات من الهند وسيريلانكا، وفق المعهد الأممي.
– القضاء الجزائري يفتح ملف «أخطر شبكة دولية» لتهريب الأسلحة من ليبيا
– تحقيقات تكشف تورط شركة سويسرية في تهريب النفط الليبي
كما أكد المعهد الاممي انتعاش تجارة القنب غير المشروعة بشكل كبير في ليبيا، نظرا لأن البلد منطقة عبور، وتهريبه من المغرب إلى البلقان. وتمول هذه التجارة عددا من الشبكات الإجرامية التي تنقل المنتوج. لكن انخفضت مضبوطات الهيروين في ليبيا بعد العام 2011 .
مشتقات النفط تمثل 20% من دخل الميليشيات
وتمتد الظاهرة إلى تهريب النفط والبنزين والديزل أيضا كمصدر للدخل، والتي تمثل مبيعاتها المكتسبة بطرق غير قانونية ما يقدر بـ20 %من دخل الجماعات المسلحة المنخرطة في الصراع، حسب التقرير الأممي، في حين كانت هذه المواد مصدر الدخل الرئيسي لتنظيم «داعش» الإرهابي في عامي 2014 و2015 .
وتفيد التقارير أيضا بأن كميات تقدر قيمتها ما بين 750 مليون دولار وبليون دولار من النفط الليبي يتم تهريبها إلى مالطا كل عام. حيث تصدر عديد الميليشيات الديزل من ليبيا، ففي العام 2017، فككت الشرطة الإيطالية جماعة كانت تهرب الديزل من خلال شبكة مافيا إيطالية كانت متورطة مع عصابة تهرب الوقود الليبي، وتم بيع ما قيمته على الأقل 30 مليون يورو من الديزل في محطات الوقود الأوروبية.
وغير بعيد عن ذلك، فإن معظم عمليات غسل الأموال في ليبيا ودول شمال أفريقيا تتم بشكل أساسي من خلال الاقتصادات غير الرسمية، والتي تعتمد على النقد. في وقت ظلت ليبيا على قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للبلدان التي لا تشكل مصدر قلق فوري ولكنها مهمة من حيث مراقبة وضع غسل الأموال.
تحويلات خارج رقابة المصرف المركزي
ويعد تحويل الأموال إلى خارج ليبيا دون موافقة مصرف ليبيا المركزي غير قانونيا، ويقدر أن ما يصل إلى 10% من التحويلات الأجنبية تتم من خلال وسائل غير قانونية أي ليس من خلال المصرف المركزي .
وهناك تقارير عن عمليات غسل أموال تتم من خلال إصدار فواتير كاذبة عن معاملات التجارة الخارجية. كما يصعب على الحكومة الليبية مراقبة تحويلات الأموال من قبل العمال المهاجرين.
ومن جهة أخرى أدت الصعوبة المتزايدة للحصول على العملة الصعبة عبر القنوات الرسمية إلى هرع الناس إلى البنوك. ورد الفعل هذا متوقع في بيئة حيث الوصول إلى الدولار أمر حيوي. خاصة وكل السلع تقريبا التي يتم تداولها في ليبيا، تشترى من الخارج بالعملة الصعبة. فعندما قيد مصرف ليبيا المركزي قابلية تحويل العملة، كان رد فعل أصحاب المتاجر وأصحاب الأعمال الصغيرة سحب أموالهم من النظام المصرفي تماما، وسرعان ما حذت الأسر حذوهم.
وبالنظر إلى أن الدولار لم يعد متاحا عبر القنوات الرسمية، فإن التجار والأسر لا يرون الآن أي سبب لإيداع دنانيرهم في البنوك. وبدلا من ذلك، يودعون مبالغ كبيرة من أموالهم في السوق السوداء، حيث يحتفظ لهم تجار هذه السوق بالدينار كودائع غير رسمية. وباستخدام شبكة تشبه نظام الحوالة، يقومون أيضا بالتحويلات والخدمات الأخرى، حتى أنهم يشترون الشيكات المصرفية من المستخدمين النهائيين بجزء صغير من قيمتها الأسمية، وفق التقرير الأممي.
غسل جزء من تحويلات «داعش» في ليبيا
اما الأخطر في قضية التحويلات غير القانونية تتمثل في مصادر تمويل الإرهاب في ليبيا، حيث تعود الدراسة الأممية الأوروبية إلى العام 2017 ، وقتها أفادت الأنباء أن «داعش» كان أخطر تهديد لمنطقة شمال أفريقيا، وخاصة ليبيا؛ بسبب الامتداد الدولي لهذا التنظيم وما يشتبه من حيازته من احتياطات مالية.
وحسب التقارير، كان التنظيم يجني ما يصل إلى عشرة ملايين دولار من العائدات شهريا. وأشارت مصادر أخرى إلى أنه تم تحويل أكثر من 100 مليون دولار من العراق وسورية، وتم غسل جزء منها في استثمارات في ليبيا. ومنذ العام 2018، بينما فقد «داعش» السيطرة على الأراضي في سورية والعراق، لم يختف قط في ليبيا، بيد أنه لا يمارس الحكم في أي منطقة محددة. كما تستخدم المنظمات المتطرفة العنيفة أيضا مساحتها الآمنة نسبيا في ليبيا كمنصة انطلاق لدعم أنشطتها الإرهابية في الخارج، وفق المعهد الأممي.