مَــقالْ / د. محمد أحمد الشحاتي
يدور الحديث كثيرا عن أهمية الإصلاح الاقتصادي والمالي في الدولة للتغلب على المشاكل الحياتية التي تواجه المواطن نتيجة لسوء الأحوال الاقتصادية. وفي ظل هذا الحديث تثار قضايا الفساد المالي وتجاوز الصلاحيات وسوء توزيع الموارد واختلال نظام توزيع الثروة العامة على الافراد وهي قضايا جوهرية يجب التعامل معها لحل الإشكاليات التي تعترض عودة الاقتصاد الليبي إلى مساره الصحيح، ولكن في ظل حمي الوطيس المصاحب لهذه النقاشات الحادة يتناسى الكثير قضية جوهرية هي حتمية اصلاح السياسة التجارية في الاقتصاد والذي بدونها لا يمكن الوصول إلى حلول ناجعة في المسألة الاقتصادية بشكل عام.
التستر على أهمية اصلاح السياسة التجارية فيه نوع من العمدية نظرا لارتباطه بمصالح احتكارية بتحالفات سياسية محلية وخارجية تفضل عدم تحريك الوضع الحالي في هذه الناحية. وقد حاولت الدولة الليبية على مدى عقود طويلة اصلاح السياسة التجارية بعدة مناهج تراوحت بين تأميم التجارة بشكل كامل أو جزئي ومحاولة تنظيمها تحت إشراف حكومي لصيق وأخيرا ترك الحبل لها على الغارب. وقد فشلت الإدارة الليبية منذ بداية الالفينات في محاولات الانضمام لنظام دولي للتجارة الحرة وذلك بعدم الحصول على العضوية الكاملة في منظمة التجارة العالمية والذي يتوقع ان يؤثر عميقا في عملية تنظيم التجارة في الدولة الليبية.
وبالرغم من أن الاعتقاد الموجود بأن القطاع الحكومي هو من يقف أمام انضمام ليبيا لمنظمة التجارة العالمية ألا أن الحقيقة فأن القطاع الخاص الليبي “غير المنظم” هو من يقف عائقا حقيقيا أمام انضمام الدولة لهذا المنتدى الدولي والذي سيعني التزام وطني دوليا بإنهاء الاحتكارات المحلية الخاصة. أن أهم خطوة للنجاح في انضمام الدولة للمنظمة العالمية بما سيوفره ذلك من سهولة انسياب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للدولة والتي يُحتاج إليها في إعادة إطلاق عملية التنمية، هي خطوة تطوير سياسة تنهي عمليات الاحتكار سواء الخاصة أم العامة في كثير من القطاعات الإنتاجية أم الخدمية مع احتفاظ الدولة بمشروعية الاحتفاظ بالصناعات السيادية.
وسنحاول هنا بشكل مختصر مناقشة كيفية اصلاح السياسة التجارية في ليبيا وذلك بالحديث عن بعض المحاور الرئيسية المتعلقة بالعملية التجارية عموما وكيفية وضعها على السكة الصحيحة ودور السلطات العامة ومسئوليتها عن تقليل الهدر الناتج عن الممارسات التجارية المنحرفة وأثر ذلك على عملية التنمية الاقتصادية والاستقرار المجتمعي وذلك عن طريق التحليل الوصفي باستخدام بعض الاحصائيات المقارنة مع دولتي تونس والكويت لوضع علامات مرجعية.
أولا: اصلاح السلوك الاستهلاكي الفردي والجماعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلوك الاستهلاكي سواء الفردي أم الجماعي يتأثر بعوامل كثيرة أهمها المستوى الاقتصادي، والتكنولوجي، والعوامل الثقافية، والدينية. وتشكل هذه العوامل خليطا يميز مجتمعا عن أخر أو دولة عن أخرى. السؤال هنا هو هل يمكن أن نعتبر تطور السلوك الاستهلاكي متوافق مع نمو القدرة الاقتصادية للمجتمع بصورة مستدامة. على سبيل المثال ماذا قد يستفيد مراجع (من شط الحرية) وهو لا تصل الكهرباء إلى قريته (مقلب الشراب) من مكيف هواء أو من شاشة تلفزيونية غير تخزينهما أما لبيعهما في فترة قادمة (جديدان) بسعر أعلى أو استعمالهما عند وصول الكهرباء الموعود.
استعمال الأجهزة والتطبيقات يطور سلوك استهلاكي لدى الفرد أو الجماعات وهذا السلوك الاستهلاكي يتطلب عمليات تجارية لإشباعه. المشكلة أحيانا أن التطور العشوائي للسلوك الاستهلاكي يقود إلى هدر كبير في الموارد وهذا يحدث عادة في وجود وفرة مصطنعة يسببها ظرف طارئ مثلا احوال الطقس المواتية أو الدعم الحكومي أو حتى الخصومات التجارية في المحلات. هذا التطور العشوائي يمكن أن يستقر كعادة استهلاكية تؤثر على “التوازن العقلاني” للاستخدامات البشرية ويعمل على سحب جزء كبير من توظيف الموارد العامة الراشد إلى ثقب أسود يبتلع هذه الموارد بدون عوائد إنتاجية، وهنا يتطلب الأمر الإصلاح.
اصلاح السلوك الاستهلاكي عملية تدريجية يتم فيها توظيف إجراءات ترشيد الاستهلاك بالتسعير المناسب سواء عن طريق التقييم السوقي أو بالإخضاع إلى ضرائب معينة. فترشيد استهلاك المواد المدعومة مثلا يتم عن التحرك التدريجي لسعر السوق الحر لهذه المواد أما للتحكم في استهلاك السجائر أو المشروبات الغازية أو حتى ألعاب الانترنت مثلا فلابد من فرض الضرائب الانتقائية للتحكم في الاستهلاك المتسم بالإدمان. ويمكن اصلاح السلوك الاستهلاكي أيضا بتوجيه المستهلكين إلى استعمال سلع أو خدمات أكثر فعالية رغم ارتفاع سعرها مقارنة بمنافسين لها وفي هذا الخصوص يمكن إعطاء مثل على مصابيح النيون الحديثة التي تستهلك كهرباء أقل وتدوم لفترة أطول بدلا من المصابيح (اللامبات) العادية والتي دورة استهلاكها سريعة جدا، كما يمكن أيضا تشجيع الصيانة واتباع الأسلوب المحافظ في الاستهلاك كإطفاء أضواء الغرف الخالية واخفاض صوت مذياع التلفزيون وفصل الكهرباء عن سخان المياه عند عدم الحاجة له، وهي أمور لا أظن أن أبنائي سيتفقون كثيرا معي عند طرحها في البيت.
أحيانا يكون هناك فرق كبير بين المبيعات والاستهلاك، فالمبيعات في دولة معينة قد لا تعكس أبدا مستوى الاستهلاك ومن ثم فأن أي إجراءات لترشيد وإصلاح الاستهلاك قد لا تكون فعالة، فالفروق الضريبية والجمركية بين الدول تقود إلى انحرافات في تقدير استهلاك دولة ما، دعونا نأخذ مثلا واردات التبغ لكل من تونس “178 مليون دولار سنويا”، ليبيا “355 مليون دولار سنويا”، الكويت “285 مليون دولار سنويا”، لا توجد احصائيات واضحة عن عدد المدخنين في كل دولة ولا عدد استهلاكهم من السجائر لكن بديهيا لا يمكن أن يكون استهلاك ليبيا ضعف استهلاك تونس من السجائر، التفسير المنطقي هو تسرب كميات من السجائر الموردة لليبيا إلى تونس نظرا لارتفاع الضرائب في تونس على السجائر الاجنبية. مثل آخر هو أثواب الفراء (الفرو) الطبيعية أو الصناعية ففي حين تستورد ليبيا بما قيمته 120 ألف دولار سنويا، تستورد تونس بما قيمته 992 ألف دولار سنويا، ألا أن العجيب أن الكويت التي تصل درجة الحرارة فيها إلى أعلى من 50 درجة مئوية تستورد ما قيمته 156 مليون دولار سنويا من أثواب الفراء لا أظن أن الكثير منه سيستعمل محليا.
ويجب أن يهدف الإصلاح الاستهلاكي أساسا إلى إدارة وجهة الاستهلاك شطر الإنتاج المحلي تجاريا أولا، وتخفيض استهلاك المواد والسلع الضارة بالصحة سواء كانت موردة من الخارج أو كانت منتجة محليا ثانيا. ولإنفاذ عملية الإصلاح الاستهلاكي فأن قنوات التوزيع التجاري المحلية يجب أن تكون محصورة ومقننة ومراقبة من السلطات العامة، عدا ذلك يمكن لأي خطوات إصلاحية للاستهلاك المحلي أن تقود إلى المزيد من الاستهلاك العشوائي.
ثانيا: تحجيم الاحتكار في السلوك التجاري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاحتكار في جوهره ظاهرة تجارية بالرغم من أنه يعامل في كثير من الادبيات الاقتصادية على أنه ظاهرة صناعية. الوجه التجاري للاحتكار هو الذي يبلور الجانب الصناعي له، فالقدرة على السيطرة على المستهلك تجاريا سواء عن طريق التشريع أو الميزة الصناعية هي ما يحقق ما يسمي بـ “السطوة التسويقية” أو Market Power، الخطوة الأولى لإزاحة العارضين الأقل كفاءة اقتصاديا أو حتى سياسيا والسيطرة على الاستهلاك بالإنتاج الاحتكاري. الاحتكار لا ينطبق فقط على الإنتاج المادي، بل يمتد إلى تقديم الخدمات أيضا ومحاربة الاحتكار وظيفة معقدة تقوم بها الحكومات بصفة مستمرة نظرا لصعوبة تعريف وتحديد المجالات الاحتكارية. في التاريخ المعاصر يوتيوب، جوجل، فيس بوك وغيرها كلها تخضع لتحديات الاحتكار الذي يستمد من التفوق التكنولوجي والموانع السياسية لانتقال التكنولوجيا وقد عانت صناعة النفط والكيماويات خلال فترات ماضية من نفس العوائق والتي خلقت احتكارات عالمية معروفة.
الاحتكار على الصعيد المحلي في ليبيا موجود بقوة وما يجعل الأوضاع أكثر سوءا هو أنه لا توجد قوانين واضحة لتحجيمه ومنع نشوئه وتطوره. المؤشرات السلبية للاحتكار كلها واضحة في أداء الاقتصاد الليبي خصوصا في تجارة التوريد والتوزيع من ارتفاع أسعار ناتج عن سيطرة احتكارية وسوء خدمات ما بعد البيع والفروق الكبيرة بين الأسعار العالمية والاسعار المحلية المتضخمة لنفس السلعة أو الخدمة وأخيرا رداءة النوعية المقدمة للمستهلك الليبي كالسلع المستخدمة Second hand والسلع المعادة Returned goods والخردة scraped والسلع الأقل جودة off specs وللأسف حتى في مجال المواد الغذائية.
الإصلاح التجاري الجيد هو الذي يتعامل مع هذا المحور بجدية حيث يجب أن تعمل الأجهزة الحكومية على الكشف عن العمليات الاحتكارية كما تعمل تماما على كشف الفساد المالي في العمل الحكومي. الاحتكار رغم أن له هيكلية تجارية ألا أنه ليس كيانا ظاهرا، بل هو يعمل بسرية تامة تشبه إلى حد كبير تنظيمات المافيا ويعقد التحالفات الخفية مع السلطات العامة لضمان استمرار “السطوة السوقية” للكيان الاحتكاري والذي يولد ما يسمى بالربحية الفائقة Super Normal Profitability عن النشاطات التي يزاولها.
أحد أهم المعارك التي نشاهدها والتي تدل على وجود هذه الكيانات الاحتكارية هي المعركة حول السجل التجاري وتوثيق نظم الوكالات التجارية من ناحية الملاك والهياكل الإدارية واختصاصات الشركات. معركة تشتد سواء كان الكيان الاحتكاري يتبع القطاع العام أم القطاع الخاص. وبينما يفتقد القطاع العام المرونة للاختفاء وراء ستار الاحتكار، تستطيع الكثير من الكيانات الاحتكارية الخاصة إخفاء نشاطها الاحتكاري بقليل من المناورات القانونية في عملية التسجيل. محاربة الاحتكار كما محاربة الفساد تحتاج إلى مرونة تشريعية وقانونية لصيد السلوك الاحتكاري بعمليات مسبقة.
في الجزء الثاني سنواصل مناقشة المحاور التالية
اصلاح التمويل الاستثماري العام والخاص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اصلاح السياسات النقدية وسعر الصرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اصلاح نظام الدعم الحكومي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اصلاح النظام الجمركي والضريبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التخطيط التجاري والانفتاح الاقتصادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اصلاح هيكل الصادرات والواردات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع