مَـــقالْ / أبو القاسم علي الربو
قرّرت الحكومة الليبية مكافأة مدير الخدمات التعليمية في إحدى المدن بنقله إلى سفارة ليبية في الخارج، تقديراً لمجهوداته في خدمة التعليم ومكافحة الفساد سنوات عديدة. وطلبت الحكومة منه اقتراح من يثق فيه ليحلّ محلّه، ليواصل المسيرة نفسها ويحقق النجاح نفسه. وبالفعل، رشّح من يراه كفؤاً لذلك، وجرت عملية التسليم والاستلام بسلاسة، نادراً ما تحدُث بين المديرِين. وفي أثناء عملية الاستلام والجرد، لاحظ المدير المستلم أنّ مدرسة غير موجودة على الطبيعة، موجودة بكامل طاقمها منذ سنوات في المستندات الدفترية. وعند استفساره، أخبره المدير القديم (صديقه) بأنّها ليست على أرض الواقع، ونظراً إلى ضعف الإمكانات المادية المخصصة للإدارة، اضطر لذلك للحصول على ميزانية مخصّصة لهذه المدرسة (الوهمية) للاستفادة من هذه الأموال في الصرف على باقي المدارس الأخرى، مطمئناً إياه بأنّه، وبعلاقاته الشخصية، يستطيع إلغاء هذه المدرسة من المحاضر حتى لا يعود لها وجود في أيّ مستند. رفض المدير الجديد الاقتراح، مبرّراً أنّ بقاءها سيكون في صالحه، وأنّ خطوته الأولى هي المطالبة بميزانية لصيانة هذه المدرسة التي “تؤدّي” وظيفتها منذ سنوات، من دون أن تجري لها أيّ عملية صيانة.
رواية يتبادلها كثيرون في ليبيا، تعكس حجم الفساد الذي استشرى في بلدٍ ما زال تتقاذفه أمواج الصراعات الداخلية وتتلاعب به القوى الخارجية التي اتخذت من أرضه مسرحاً لتصفية حساباتها وتحقيق مصالحها، فساد لم يعد يحتاج أدلة أو جهداً لاكتشاف تغلغله، فمعظم مؤشّرات الفساد التي تصدر من هنا أو هناك ترسم صورة قاتمة عن الوضع في ليبيا، والتي لم تستطع حكوماتها إحراز أي تقدّم في مكافحة هذه الآفة منذ أكثر من عقد، حيث تتراجع على مؤشر الفساد من سيئ إلى أسوأ، ويتدحرج ترتيبها حتى وصلت إلى أن تربّعت، وبكلّ جدارة، على عرش الفساد، لتصبح من ضمن الدول العشر الأكثر فساداً على مستوى العالم سنوات متتالية، وسجل التقرير، الصادر أخيراً (2021) من منظمة الشفافية الدولية، حصولها على أواخر الترتيب في مكافحة الفساد، متقدّمة فقط على اليمن والصومال وسورية التي جاءت الأخيرة عربياً.
ليبيا من ضمن الدول العشر الأكثر فساداً على مستوى العالم سنوات متتالية
وجديرٌ بالذكر أنّ جهاز الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة وغيرهما أشارت إلى تفشّي هذه الظاهرة بكلّ أنواعها بشكل ملحوظ في معظم الأجهزة الحكومية، وعلى مختلف المستويات، بمن فيها الوزراء، فقد جرى إيقاف وزيرة الثقافة ووزير التعليم، وأخيراً وزير الصحة، ومديري مصارف ووكيلي وزارات، والحبل على الجرار. أما المضحك المبكي فهو إيقاف رئيس هيئة مكافحة الفساد بتهمة الفساد. وثمة تقارير وإحصائيات ومعلومات مؤكدة يظل معظمها حبيس الأرفف نتيجة الفوضى الأمنية وغياب الأجهزة القادرة على تطبيق الأحكام القضائية أو الإدارية، الأمر الذي أدى إلى تفريغ هذه التقارير من محتواها، وأصبحت تتكرّر في كلّ سنة من دون إعارتها أي اهتمام من أحد، وفي أحيان كثيرة، يتم استخدامها وتوظيفها ورقة بين النخب الحاكمة المتصارعة.
فشلت الحكومات الليبية المتعاقبة في إيقاف هذا النزيف المستمر، والذي ألقى بظلاله السلبية على كلّ مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأدّى، في ما أدّى إليه، إلى تسهيل تحوّل أشخاص عاديين وعناصر مسلحة إلى أصحاب ثرواتٍ ضخمة، في وضع وصفه المبعوث الأممي السابق، غسّان سلامة، قائلاً: “هناك مليونير جديد كلّ يوم في ليبيا، وطبقة وسطى تتقلص يوماً بعد آخر”. واتهم، في مقابلة مع قناة الجزيرة، الطبقة السياسية في ليبيا بأنّ لديها كماً كبيراً من الفساد يندى له الجبين، إذ يستولون على المال العام، ثم يوظفونه في الخارج.
أنفقت الدولة خلال السنوات العشر أكثر من 400 مليار دولار، من دون تحقيق أي تنميةٍ على أرض الواقع
ويمكن أن يعزى الفشلان، الشعبي والحكومي، في مكافحة هذا المرض، إلى عدم جدّية مختلف الحكومات في محاربة هذه الظاهرة، لأنّها تدرك أن ذلك سيفتح الباب على صراع مع شخصيات نافذة، عادة ما تكون مرتبطة بمجموعات مسلحة تتولى حمايتها. وبالتالي، تفضل هذه الحكومات غضّ الطرف عن هذه الأمر، إلّا في إطار رفع الشعارات البرّاقة والبيانات الشعبوية التي تتظاهر بمحاربة الفساد لكسب ود الشارع. كما ساهم تشظّي المؤسسات العامة وانقسامها في تفشّي هذه الظاهرة من خلال ضعف مؤسسات الدولة وهشاشتها، وعدم وجود آليات وأجهزة أمنية قوية لضبط المفسدين وإيقافهم. الأمر الذي أدّى إلى عدم الخوف من تطبيق القانون والعقاب، وبالتالي زيادة استباحة المال العام على كلّ الأصعدة. وتلعب طبيعة المجتمع الليبي القبلية دوراً سلبياً في مكافحة الفساد، إذ تتولى الحواضن الاجتماعية، كالقبائل والمدن، تبرير التجاوزات التي يرتكبها المسؤول المنتمي إليهم. وكثيراً ما يبرّرون التحقيق أو اتهام هذا المسؤول بأنّه دعوى كيدية ملفقة، تستهدف هذه المكوّنات القبلية ككلّ، خصوصاً إذا كانت هذه القبائل من الأقليات العرقية، كما حصل عندما تظاهر كثيرون من أقلية التبو، مطالبين بالإفراج عن وزيرة الثقافة والبيئة المعرفية التي تعود أصولها إليهم، عند سجنها احتياطياً بشبهة الفساد. وعلى الرغم من تكرّر عمليات الحبس الاحتياطي للمسؤولين والوزراء، إلا أنها تنتهي عادة بإطلاق سراحهم أو الحكم عليهم بأحكام مخفّفة، الأمر الذي يبعث رسالة طمأنة للجميع بأن الأمر لا يعدو، في أسوأ الأحوال، عن حبس احتياطي لا يتجاوز أياماً عدة، وبالتالي يستحق الأمر المجازفة. كما أنّ وقوع السلطة القضائية تحت ضغط المجموعات المسلحة يقوّض قدرتها على إصدار أي أحكام ضد المتهمين بقضايا فساد، سيما وأن معظمهم يستقوي بهذه المجموعات، الأمر الذي أدّى إلى إطلاق سراح كثيرون ممن اتهمهم النائب العام أو ديوان المحاسبة ليستلموا مهامهم من جديد، بل وفي حالات كثيرة يجري تكليفهم بمسؤوليات أكبر وأهم.
عوامل كثيرة ومتشعبة ساهمت في انتشار الفساد في ليبيا، خصوصاً خلال السنوات العشر الأخيرة، إلى درجةٍ يكاد يكون قاعدة ثابتة، بعدما كان استثناء، إذ لا تكاد جهة عامة أو وزارة تخلو منه، بطريقة أو بأخرى، ابتداءً من توظيف الأقارب والأصدقاء، ما ساهم في تضاعف بند المرتبات في الميزانية في كلّ سنة، وانتهاء بالرشى التي أصبحت ظاهرة عامة، اقتنع بها المواطن، ويدفعها عن طيب خاطر، إذا أراد إنجاز أيّ معاملة.
مجهودات النائب العام وديوان المحاسبة وجهاز الرقابة الإدارية وحدها للحدّ من ظاهرة الفساد لا تكفي
حقائق صادمة وأرقام مرعبة وردت في تقارير ديوان المحاسبة والرقابة الإدارية، فقد أنفقت الدولة خلال السنوات العشر أكثر من 400 مليار دولار، من دون تحقيق أي تنميةٍ على أرض الواقع. وما زالت أغلب المدن والقرى الليبية تعاني من انقطاع الكهرباء المتكرّر صيفاً وشتاء، على الرغم من ملياراتٍ صرفت وما زالت على هذا القطاع، وأصبح المولد أحد ضروريات الحياة، على الرغم من أسعاره الباهظة، حتى صار بديلا لخدمات الكهرباء العامة. أما الوقود، والذي تكلف فاتورة دعمه أكثر من 12 مليار دينار، فليس بأحسن حال من الكهرباء، فكثيرا ما اضطرّ المواطن الليبي إلى الوقوف ساعات، بل وأياما من أجل الحصول عليه. في الوقت الذي يهرب عبر الحدود الجنوبية وعبر البحر في صفقات فسادٍ بين المورّدين والمهرّبين في عمليةٍ منظمةٍ تحميها شخصيات كثيرة نافذة تحرسها المليشيات المسلحة التي يعدّ التهريب أحد وسائل تمويلها. وبالتالي، فإن الدعم الذي يجعل سعر الوقود في البلاد أرخص من سعر المياه المدنية يعود بالنفع على المتاجرين به. أما المواطن فكثيراً ما يحصل عليه من السوق السوداء بأضعاف مضاعفة.
ولم تكن الدبلوماسية الليبية في منأىً عن الفساد بمختلف أنواعه، فقد شهد هذا القطاع تكدّس الموظفين إلى الدرجة التي أصبحت فيها السفارات والقنصليات تعجّ بأعداد مبالغ فيها نتيجة لتدخل المسؤولين، في تعيين أقاربهم وأصدقائهم أو نقلهم إليه للاستفادة من المزايا التي تميزه عن غيره من القطاعات. ولا يختلف الأمر في قطاع الاستثمارات الخارجية، والتي تعاني هي أيضا من فساد مالي وإداري لم يساهم في تدنّي الإيرادات فقط، بل أدّى أيضاً إلى فقدان أصولٍ كثيرة، خصوصاً في الدول الأفريقية التي استغلت ضعف الحكومة المركزية والفساد وانعدام المتابعة، لتصادر كثيرا من أصول الاستثمارات الليبية في هذه الدول.
وعلى الرغم من مجهودات النائب العام وديوان المحاسبة وجهاز الرقابة الإدارية للحدّ من هذه الظاهرة، فإنّ ذلك وحده لن يكفي، ما لم تكن هناك إصلاحات جذرية وعميقة، في كلّ مناحي الحياة، بما يضمن تعزيز الشفافية وتسهيل تبادل المعلومات وتمكين المواطن من الاطلاع على أنشطة الحكومة، والمبالغ التي تصرفها، خلال فتح السجلات العامة، والإفصاح عنها، وبناء ديمقراطية تعطي الحرية للصحافة ومنظمات المجتمع المدني، وتضمن استقلال القضاء، لأنّ ذلك كله سيشكّل ضغطاً على المسؤولين، وقد يحدّ من فسادهم، والأهم العمل على توحيد المؤسسات الرئيسية المنقسمة بين الشرق والغرب.