مَــقالْ / د.محمد أحمد الشحاتي
تقوم جميع الدول المستقلة بإقرار الموازنة الحكومية لتحديد الانفاق العام وضوابطه سنويا بقانون يصدر عن السلطة التشريعية في الدولة. قد يكون من المفيد هنا الإشارة لمبررات هذا الاجراء الروتيني المتكرر لغير المختصين، والذي يمكن حصره في الأسباب الآتية:
أولا:
ضبط كفاءة الانفاق الحكومي لتحقيق الاستقرار الاجتماعي في الدولة ومنع استغلال الموارد العامة بصورة متحيزة تجاه مجموعة أو أفراد أو أهداف معينة. من هنا تأتي أهمية تحديد الانفاق الحكومي بواسطة طرف ثالث محايد عن الذي يقوم بالصرف ومن ناحية العدالة فأن هذا الطرف ينبغي أن يكون ممثلا عن “مصادر الإيرادات العامة” المتمثلة في دافعي الضرائب أو مالكي الثروات الطبيعية. وقد استقر الفكر السياسي والاقتصادي والإداري على أن يكون هذا الطرف هو السلطة التشريعية في البلد.
ثانيا:
الاستجابة للتغيير الذي يحصل في طبيعة “مصادر الإيرادات العامة” نتيجة ارتفاع أو انخفاض وتيرة النشاط الاقتصادي في المجتمع والذي يمكن أن يتم قياسه وتقديره بصورة منتظمة خلال سنة تكون مرتبطة بدورية المواسم المناخية للإقليم الجغرافي.
ثالثا:
الاستجابة للتغيير الذي يحصل في طبيعة “حاجة مصارف الانفاق الحكومي” نتيجة التغييرات الطبيعية مثل النمو أو الحركة الديموغرافية (زيادة عدد السكان، تنقل السكان) أو التغييرات الفجائية (الحروب، الثورات، الأوبئة). وبينما تعتبر وتيرة التغير في مصارف الإنفاق أقل بطئا من وتيرة التغيير في مصادر الإيرادات مما يجعلها أكثر صعوبة في القياس والتقدير بدقة ألا أن تحديد فترة السنة تبدو مناسبة لضبط نمط الانتظام.
المقدمة أعلاه ضرورية للتنبيه بأننا في ليبيا بعكس دول العالم جميعا نعيش للسنة السابعة على التوالي اليوم بدون إقرار أو تفعيل أي موازنة رسمية للدولة. منذ سنة 2016 عندما حلت ما يسمى بـ “الترتيبات المالية” بالتلفيق محل قانون الميزانية العامة للدولة بضغط من قوى دولية خارجية في مؤتمر في لندن لم يتم التزام الحكومة بأي ضوابط قانونية شرعية في تحصيل الإيرادات أو الإنفاق. حيث لم يتم فقط خرق القانون في طرق الإنفاق، بل تجاوزه إلى طرق التحصيل عندما تم فرض رسوم على عمليات تغيير سعر الصرف. وبالرغم من تفهم ما عانته الدولة من فوضى إدارية وسياسية ألا أن التصرف خارج القانون لا يمكن تبريره. على سبيل المثال لا يزال المصرف المركزي يحتفظ بحصيلة الرسوم عنما تم صرفه بالعملة الأجنبية تحت بنود الإيرادات العامة وهو فيما أظن خطأ قانوني ومحاسبي ولن يستطيع المصرف صرفها على أي استعمالات حكومية لأنها ببساطة يجب أن تعود للأشخاص الذي تمت جبايتها منهم لأنها الجباية لم تتم وفقا لنص قانوني شرعي.
لا أفهم تحديدا ما يعوق السلطة التشريعية من إصدار قانون ميزانية لهذا العام 2022، ربما من ناحية إدارية لا يمكن للسلطة التشريعية أن تستلم اقتراح بالميزانية من سلطة تنفيذية لا تعترف بها حيث تمتلك هذه السلطة التوثيق والتبرير الكامل المخطط للسنة الحالية. كما أن جانب مهم جدا وهو ان هناك مسئولية أخلاقية تستدعي إيقاف الصرف تماما لا يمكن للمجتمع الدولي أو الدول المؤثرة في الملف الاقتصادي الليبي أن يتجاوزوها بعدم وجود أي مصدر قانوني سواء كان “ميزانية” أم “ترتيبات مالية” تعتمد عليه عمليات الإنفاق في ليبيا، مما يستدعي إيقاف التعامل التجاري مع المؤسسات الليبية بما فيها شراء النفط لحين وضع حل لهذه الإشكالية الأخلاقية.
للأسف نحن أمام المجتمع الدولي وأمام التاريخ بهذه الطريقة دولة لصة للسنة السابعة على التوالي. دول مثل العراق وأوكرانيا وحتى الصومال لم يمر عليهم يوما واحدا بالرغم من الكوارث التي مروا بها بدون تشريع مالي يغطي قانونية الانفاق العام. الحاكم الأمريكي للعراق بعد الغزو وضع ميزانيات معتمدة من المجلس الاستشاري ونشرها ويمكن محاسبته عليها حتى اليوم. ينبغي على النخب السياسية والمثقفة أن تهتم لهذا العيب الأخلاقي الكبير في مسيرة الأمة الليبية. إنفاق حكومي بدون أي محاسبة علنية كابوس غير مسبوق. ويجب أن أشدد هنا أنني لا أتهم أي طرف، ولكن يجب أن نواجه أنفسنا بالحقائق المؤلمة. يجب أن نشكر الله أن هناك الكثير من المخلصين في أجهزتنا الإدارية وبدونهم كانت الأمور لتكون أكثر سوءا.