مَــقالْ / د.محمد أحمد الشحاتي
هناك قصص متعددة حول من أين جاء مصطلح “غسيل الأموال”، البعض يقول أنه جاء من ممارسة المافيا الامريكية بقيادة الرهيب آل كابوني عندما كان يوظف أمواله التي كان يجنيها من تجارة الخمور الممنوعة آنذاك في انشاء مغاسل في شيكاغو تمر بها الأموال إلى الجهة النظيفة من الاقتصاد، آخرين يعزون التسمية إلى قيام المافيا الكولومبية بغسل الدولارات بالمياه نتيجة تلوثها بمسحوق مخدر الكوكايين الذي كانوا يهربونه إلى الولايات المتحدة الامريكية مما يسمح لهم بإيداعها في البنوك وتجنب ملاحقات البوليس لهم بسبب آثار الكوكايين على البنكنوت.
قبل عقد الثمانينات من القرن الماضي لم تكن في جميع الدول إجراءات قانونية تحارب ظاهرة غسيل الأموال مما سمح لكثير من تجار المخدرات والأسلحة والفاسدين السياسيين من غسل أموالهم بمياه نقية من البنوك المعترف بها من الدولة والنظام. بداية من عقد الثمانينات وبالتزامن مع بداية الحرب الامريكية على الإرهاب الدولي بدأت الحكومات تتخذ العديد من الإجراءات القانونية التي تقيد إلى حد كبير مرور الأموال الملوثة بالجريمة المنظمة من قنوات البنوك الدولية.
وفي الحقيقة فإن التجربة أثبتت إن مياه الغسيل كانت أكثر دائما من النقود المراد غسلها، فمياه الغسيل توفرها ملاذات آمنة في دول عديدة ونظم سياسية منتفعة وفجوات قانونية وقنوات مالية مخفية.
المشكلة هنا إن جريمة غسل الأموال هي منفصلة تماما عن جريمة الحصول على هذه الأموال. فمن يغسل الأموال قد يكون غير متورط أساسا في الجرم المتعلق بكيفية الحصول على هذه الأموال. المستفيد النهائي بالطبع هو المجرم الأصلي، ولكن غاسل الأموال هو المجرم الوسيط. بقاء الأموال ملوثة قد لا يزعج المجرم الأصلي ألا بقدر بقائها دليلا على الجريمة الذي سيعرضه للملاحقة القانونية في حالة تعقب أثرها.
النقود ذات الأرقام المتسلسلة على سبيل المثال، المجوهرات ذات العلامات الكودية، الخيول ذوي الوشم المميز، كلها أدوات تم استخدامها في فترات تاريخية مختلفة لتعقب الأثر الاجرامي وهو ما كان يستدعي القيام بعملية الغسيل بشكل أو آخر.
مكافحة غسل الأموال الحديثة تركز على محاولة السيطرة على حركة الكاش النقدي أو محاولة التحكم في التحويلات البنكية.
العمليات الكبرى التي تم فيها غسيل أموال كانت متصلة بالتقلبات السياسية العالمية الكبرى إلى جانب تجارة المخدرات والأسلحة. سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الاشتراكية كان أحد هذه المناسبات حين تم تهريب المليارات من المنظومة الشرقية المنهارة إلى أسواق المال الغربية. الغريب في الأمر إن المنظومة المالية الغربية سمحت وبشكل علني ابتلاع هذه الأموال وإعادة تدويرها في أنظمتها المالية والنقدية. في أحداث أخرى سمحت آليات المنظومة الغربية بابتلاع الأموال الملوثة بالفساد من العالم الثالث وتم التعامل بانتقائية مع مصادر هذه الأموال وفقا للولاءات السياسية من حيث توفير المياه والصابون اللازم لغسلها أو منعه عنها.
الأموال الناتجة عن الفساد المالي في العالم الثالث والتي لا تجد ملاذات آمنة ألا في الأنظمة المالية الغربية من السهل جدا كشفها ولا أظن أن المنظومة الغربية غافلة عنها نظرا لسببين بسيطين الأول هو حجمها الكبير الذي لن يمر من الفلتر المخصص لكشف مثل هذه العمليات، أما السبب الثاني فهو الجشع الذي يتمثل في ضرورة امتصاص هذه الفوائض المالية وعدم السماح لكتل اقتصادية أخرى للاستفادة منها.
الآلية بسيطة هي الابتلاع الأولي للأموال ومن ثم فلترتها وتصفيتها، حيث يتم في المرحلة اللاحقة تجميد تلك التي يحتمل أن تسبب ضررا للاستقرار السياسي والأمني للدول الغربية بينما يسمح لرش مياه الغسل على تلك التي ستغوص في المنظومة الغربية.
ويجب أن نميز بوضوح بين نوعين من تلك الأموال الأولى هي التي لا يمكن تدويرها في المنظومة المالية قبل غسلها والأخرى فهي النوعية التي وجهت للاستثمار الشرعي وهي عملية حساسة ودقيقة لأنها تمس المصلحة القومية للعديد من بلدان العالم الثالث. فهناك عملية خلط قصدية واضحة من قبل المؤسسات السياسية والمالية في الغرب تهدف إلى إلغاء التمييز بين النوعين لمنع احتمال استرداد هذه الأموال من المنظومة المالية الغربية.
المنظومة المالية الغربية استوعبت الكثير من غاسلي الأموال من تجار أسلحة مثل محمد الفايد المالك السابق لمتجر هاردوز، ومهربي أموال النفط من المافيات العربية والروسية والذين امتلكوا الأندية الرياضية والعلامات التجارية في بريطانيا وفرنسا وغيرها، وقد أعادت تقديمهم لشعوبهم أحيانا بصفة سياسيين وحكام أيضا مثل شاه إيران وجلبي العراق.
وتمتلئ التسريبات الصحفية بداية من ويكيليكس والباندوره بأرقام هذه الأموال التي دخلت المنظومة المالية الغربية ولم يتم حتى اليوم جلبها لأي نظام عدلي. بينما يتم التركيز على أصول استثمارية شرعية تم تجميدها سياسيا.