القمح والنفط والاستقرار العالمي

مَــقالْ / د.محمد أحمد الشحاتي

يبلغ مستوى التجارة العالمية من القمح سنويا تقريبا 40 مليار دولار بينما يبلغ مستوى التجارة العالمية على النفط 1.5 تريليون دولار، الاثنان يشكلان أهم سلع مادية تسهم في الاستقرار العالمي من ناحية سياسية أم اقتصادية.


صحيح أن الأنظمة الغذائية للشعوب تختلف حيث ترتفع نسبة أهمية القمح ومنتجاته في الدايت الغذائي لبعض الشعوب خصوصا في منطقة البحر الأبيض المتوسط وتنخفض في شعوب أخرى تعتمد أكثر على أنواع أخرى من الحبوب أو الدهون الحيوانية ألا أن القمح يظل مكون أساسي في أي نظام غذائي.
وبالرغم من أن الآثار الاقتصادية المحتملة للحرب الروسية الأوكرانية على سوق القمح لم تظهر بعد بشكل حاد ألا أن الكثير من المراقبين يتوقعون أن تحدث اضطرابات سياسية واجتماعية واسعة في الدول الأكثر فقرا نتيجة لارتفاع أسعار القمح. وبينما يتيح ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي موردا ماليا تعويضيا للدول المصدرة لهما للتخفيف من آثار ارتفاع أسعار القمح ألا أن الدول الأخرى سوف تعاني بشدة من أي ارتفاع إضافي لسعر القمح. فمن غير المحتمل أن تصبح الآثار المترتبة على هذه النتائج أقل أهمية في المستقبل. على سبيل المثال، سيتضاعف الطلب على الحبوب في أفريقيا جنوب الصحراء ثلاث مرات تقريبًا بحلول عام 2050، وما لم يكن هناك تكثيف زراعي محلي كبير والتوسع الهائل في أراضي المحاصيل، ستعتمد [المنطقة] على واردات الحبوب أكثر بكثير مما تعتمد عليه اليوم.
دول شمال أفريقيا بما فيها ليبيا ستواجه ارتفاع كبير في فاتورة استيرادها من القمح وهذا يرجع إلى عاملين رئيسيين، أولهما اعتماد شعوبها بدرجة كبيرة على القمح كمكون غذائي أساسي في نظامها الغذائي والعامل الآخر هو انخفاض انتاجها من القمح نسبة إلى استهلاكها المحلي.
إن أهم العوامل التي تؤثر على الأسعار خلال السنوات القليلة المقبلة هي أسعار النفط التي تظهر اتجاهاً تصاعدياً. علاوة على ذلك، فإن الوضع السياسي غير المستقر لا يؤدي إلى انخفاض أسعار النفط. إن ارتفاع تكاليف الإنتاج، بما في ذلك الأسمدة النيتروجينية والمواد الكيميائية لوقاية النباتات، هذا يُترجم بالأحرى إلى توقعات بارتفاع أسعار القمح.


من ناحية ثانية فأن إنتاج القمح معرض لخطر تغير المناخ، ويمكن أن تتغير البلدان التي تنتج أعلى مستويات من المحصول نتيجة لذلك. وفقًا لتقرير حديث لمنظمة الأغذية والزراعة حول حالة موارد الأراضي والمياه في العالم للأغذية والزراعة، في حالة سيناريو الانبعاثات العالية حيث ترتفع درجات الحرارة العالمية إلى 4.2 درجة مئوية، ستكون هناك تحولات في الأراضي المناسبة لـزارعة القمح البعلي. جاء في التقرير أن “إنتاج القمح سيزداد في الأرجنتين، وأستراليا، وكندا، وتشيلي، وشمال أوراسيا، وسينخفض في معظم وسط أفريقيا وأجزاء من البرازيل وآسيا الوسطى والهند”. هذا المشهد المتغير المحتمل، مع التداعيات التي يمكن أن يكون لها على مستويات إنتاج واستيراد وتصدير القمح، هو أكثر إثارة للقلق عند الأخذ في الاعتبار أن عدد سكان العالم من المقرر أن يرتفع إلى 8.5 مليار على الأقل بحلول عام 2030.
ومع ذلك، على المدى القصير، ستكون محاصيل عام 2022 حاسمة، حيث تستعد أسواق القمح لأن تكون “شحيحة حقًا”، وفقًا لكثير من التوقعات. وسيتفاقم الوضع بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ولا يسع العالم إلا أن يأمل في أن يؤدي حصاد القمح القوي إلى إنقاذ البلدان الأكثر ضعفاً من زيادة عدم الاستقرار الغذائي.


ويجب أن نلاحظ أن الدول الكبرى لم تتوان في استخدام الغذاء كسلاح سياسي لبسط نفوذها عالميا بالتهديد بالتجويع، وفي الحقيقة فأن التوسع الروسي (السوفييتي) في زراعة القمح وتحوله من مستورد صافي إلى أكبر مصدر للقمح خلال العقود الماضية جاء ردا على الاستغلال الأمريكي السياسي للقمح في المفاوضات الاستراتيجية، ولايزال في الذاكرة العربية أيضا استخدام الولايات المتحدة التهديد بسلاح القمح لمنع تنفيذ مشروع السد العالي بأسوان في مصر في حقبة الخمسينات.
يبدو أن هذا المشهد سيعود من جديد وستكون الدول الصغيرة خصوصا تلك التي تعتمد على الواردات من القمح بصورة كثيفة تحت التهديد من هذا الطرف أم ذاك. وهذا يستدعي إعادة التفكير بعمق في التوجه المستقبلي لمعالجة هذا الأمر بالتركيز على هدفين الأول هو كيفية زيادة الإنتاج من القمح في المنطقة بإجراءات استثمار جماعية والاستفادة من رخص مصادر الطاقة والاسمدة في هذا المجال الاستراتيجي، أما الهدف الثاني فهو إجراء تغيير نمطي في النظام الغذائي ومحاولة الحد من الهدر في استهلاك القمح.

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

القائمة