الجزء الاول
كشف الدكتور فتحي المجبري في دراسة بعنوان الاجندة الاقتصادية للعنف ودورها في استمرار الصراعات و الحروب الاهلية
دراسة للحالة الليبية جاء فيها
فيما يخص الأجندة الاقتصادية في الصراع الليبي فقد ذكر بأن ليبيا شهدت في فبراير من عام 2011 انتفاضة شعبية تطالب بالحرية والعدالة والديموقراطية ضد نظام القذافي الشمولي ، وسرعان ما تحولت هذه الانتفاضة إلى صراع مسلح قاد البلاد إلى حرب أهلية ، نتج عنها الكثير من التحولات من بينها إنهيار مؤسسات الدولة المختلفة وحدوث فراغ أمني كبير نتيجة لغياب قطاع أمني فعال .
وبخصوص أنماط المكاسب الاقتصادية التي تحققها التشكيلات المسلحة من استمرار الصراع في ليبيا ذكر بأنه يتتبع هذا الجزء الأنماط والأساليب التي استخدمتها الأطراف المتصارعة في ليبيا وتشكيلاتها المسلحة للحصول على التمويل اللازم لاستمرار وجودها وأنشطتها ولتحقيق مكاسب مادية لقيادات وأفراد هذه التشكيلات، ويمكن التمييز بين نمطين لتحقيق المكاسب اعتمدت عليهما هذه التشكيلات : الحصول على التمويل الحكومي المباشر من خلال الميزانية العامة للدولة وهو ما يمكن أن نطلق عليه التمويل الرسمي ، والتمويل غير الرسمي وهو ما تحصل عليه التشكيلات المسلحة من موارد مالية من خلال الانخراط في أنشطة غير قانونية وإجرامية .
وكذلك التمويل الرسمي عبر الميزانية الحكومية فالميزانية العامة بأبوابها الثلاثة المصدر الرسمي الأساسي الذي تتدفق من خلاله الموارد المالية للقطاع الأمني ، حيث يشتمل الباب الأول من الميزانية على المرتبات وما في حكمها من مكافات وحوافز مالية ، بالإضافة إلى مخصصات الإعاشة والقيافة ( الملابس الرسمية ) ، أما الباب الثاني ، فهو يتضمن المصروفات العمومية من قبيل الكهرباء والوقود والقرطاسية والذخائر والمعدات الخفيفة وما في حكمها ، أما الباب الثالث ، فهو يتضمن المصروفات الرأسمالية مثل الإنفاق على بناء المقرات والمعسكرات وشراء المعدات الثقيلة والأجهزة والسيارات والمركبات المدرعة وما في حكمها .
وإجمالي التدفقات المالية للقطاع الأمني بشقيه ( وزارة الداخلية ووزارة الدفاع) خلال السنوات من سنة 2010 إلى سنة 2018 وهي آخر سنة تتوافر فيها بيانات منشورة عن الإنفاق العام في ليبيا، ومن المتضح أنه بعد سنة واحدة من الصراع عادت حصيلة الإيرادات العامة إلى مستوياتها السابقة للصراع ، حيث قفز إجمالي الإيرادات العامة من نحو 10.5 مليار دينار في العام 2011 إلى 70.1 مليار دينار في العام 2012 ، أي بنسبة زيادة قدرها 300 ٪ مقارنة بالعام 2011 وبنسبة 18 % بالمقارنة مع العام 2010 ، ويرجع ذلك إلى النجاح في رفع مستويات إنتاج النفط إلى ما كانت عليه قبل الصراع ، وأدى هذا الارتفاع الكبير في الإيرادات العامة إلى زيادة في الإنفاق العام ، حيث زادت النفقات العامة من نحو 49.1 مليار في العام 2012 إلى 65.6 مليار في العام 2013 ، أي بزيادة نسبية قدرها 33.5 % ، وبالمثل زاد الإنفاق على القطاع الأمني من 8.1 مليار دينار في العام 2012 إلى 10.9 مليار دينار في العام 2013 ، أي بزيادة نسبية قدرها 21.1 % ، وتجدر الملاحظة هنا أن الزيادة النسبية في الإنفاق على القطاع الأمني كانت أقل من الزيادة النسبية في إجمالي الإنفاق العام ، وهذا يعني أن هناك قطاعات أخرى نما فيها معدل الإنفاق بشكل أسرع من نمو الإنفاق على القطاع الأمني بشكل عام ، غير أن الزيادة في الإنفاق على القطاع الأمني تظهر بشكل جلي عندما نقارن مستويات الإنفاق قبل بداية الصراع في عام 2011 ، وللأسف لا تتوافر بيانات عن الإنفاق على وزارة الدفاع للعام 2010 ولكن قانون الميزانية العامة رقم ( 2 ) الصادر عن مؤتمر الشعب العام في سنة 2010 يوضح حجم مخصصات وزارة الداخلية ( اللجنة الشعبية للأمن العام ) التي بلغت 1.9 مليار دينار في حين بلغت نفقات وزارة الداخلية في سنة 2012 ، 2.8 مليار دينار ، أي بزيادة بنسبة 47 % ، وهذا يؤشر إلى حجم الإنفاق الكبير الذي حصلت عليه وزارة الداخلية بعد الصراع بالمقارنة بفترة ما قبل الصراع .
وتذهب نسبة كبيرة من الإنفاق على القطاع الأمني خلال هذه الفترة لدفع المرتبات وما في حكمها ، حيث زاد إجمالي نفقات الباب الأول للقطاع من 3.9 مليار في عام 2012 إلى 5.6 مليار دينار في العام 2013 ، وتعكس هذه الزيادة في بند المرتبات التوسع في زيادة حجم القوى العاملة في القطاع الأمني نتيجة لعمليات التهجين التي تمت الإشارة إليها أعلاه حيث انضم عدد كبير من المدنيين إلى القطاع الأمني ، وأوضح أيضًا بأن الزيادة في عدد العاملين في القطاع الأمني في العام 2014 بالمقارنة مع عددهم في العام 2010 ، كان في القطاع الحكومي في العام 2010 805,410 أفراد ، منهم 200,543 فردا يعملون في القطاع الأمني ويشكلون ما نسبته 29.8 % من إجمالي العاملين في القطاع الحكومي ، وارتفع عدد العاملين في القطاع الحكومي في العام 2014 إلى 1,524,078 فردا ، منهم 480,502 فرد يعملون في القطاع الأمني ويشكلون ما نسبته 31.5 % من إجمالي العاملين في القطاع الحكومي .
وبخلاف الزيادة المطلقة في عدد العاملين في القطاع الأمني ، فإن الزيادة النسبية في عدد العاملين في هذا القطاع كانت في المتوسط أعلى من معدل الزيادة النسبية للعاملين في القطاع الحكومي بشكل عام ، وإن كانت هذه الزيادة تعد ضئيلة نسبيا .
وتشير البيانات المتوافرة أن القطاع الأمني هو ثاني أكبر قطاع من حيث عدد العاملين بعد قطاع التعليم الذي بلغ عدد العاملين فيه 512,004 أفراد في العامكما تتدفق الموارد أيضًا إلى القطاع الأمني من خلال الباب الثاني للميزانية ، ويغطي هذا الباب في الغالب النفقات التسييرية، وأتضح أن نفقات هذا الباب قد زادت بشكل طفيف من 1.4 مليار في عام 2012 إلى 1.6 مليار في عام 2013 ، بزيادة نسبية قدرها 14 ٪ ، والجدير بالملاحظة هو أن بعض المصروفات التي تفيد ضمن الباب الثاني يتم في واقع الأمر تخصيصها في شكل مكافات ، وهو ما يعني أن جدًا معتبرًا من المصروفات المحتسبة ضمن الباب الثاني هو في الواقع يمثل إنفاقا على الباب الأول ، فعلى سبيل المثال لاحظ ديوان المحاسبة في العام 2012 أن 31 % من الإنفاق على الباب الثاني والبالغ 1318 مليون دينار ليبي خصص مكافآت للثوار بواقع 400 مليون دينار ،وذلك لمواجهة بعض الظروف الخاصة التي تتطلب تخصيص موارد إضافية لهذا القطاع ، حيث تقوم الحكومة بتخصيص ميزانيات خاصة أو ميزانيات طوارئ للإنفاق ، ولعل أبرز مثال على ذلك هو قرار المجلس الوطني الانتقالي رقم ( 8 ) لسنة 2012 باعتماد مبلغ ثلاثة مليارات دينار ميزانية استثنائية ، ومن اللافت للنظر أن القانون نص على استثناء هذه الميزانية من أحكام القانوني المالي للدولة ولائحته التنفيذية ، كما صدر قرار مجلس الوزراء رقم ( 113 ) لسنة 2012 الذي استثنى تنفيذ الميزانية من أحكام لائحة العقود الإدارية ، وبهذا أصبح تنفيذ هذه الميزانية لا يخضع لأي قيود رقابية تقريبا يوضح الجدول رقم ( 4 ) توزيع مخصصات هذه الميزانية بين القطاع الأمني وباقي قطاعات الحكومة ، وكما خصصت نحو 83 % من هذه الميزانية للقطاع الأمني ، حيث حصلت رئاسة الأركان على 1150 مليون دينار ، وحرس الحدود على 250 مليون دينار واللجنة الأمنية العليا على 728 مليون ، أما وزارة الداخلية ، فخصص لها 683 ، ووزع الباقي 383 مليون دينار على قطاعات أخرى .أوضح كذلك أهمية التمويل الحكومي الرسمي الذي تحصل عليه التشكيلات المسلحة المختلفة في ليبيا حيث شكل الإنفاق على القطاع الأمني عليها نحو 15 % في المتوسط من إجمالي الإنفاق العام خلال الفترة من العام 2012 إلى العام 2018 ، وبالنظر إلى أن التشكيلات المسلحة المتصارعة في ليبيا تنتمي بشكل أو بآخر إلى أجهزة الدولة الرسمية وتتلقى مخصصات مالية رسمية من الدولة ، فإنه يمكن القول إن الحرب الأهلية الليبية ممولة بشكل رسمي من قبل الدولة ونظرًا لإدراك الأطراف المتصارعة في ليبيا لأهمية التمويل الحكومي الرسمي للتشكيلات المسلحة التابعة لك فريق ، فقد حرص كل فريق على إيجاد آلية تضمن تدفق التمويل الحكومي لتشكيلاته ، وعندما حدث الانقسام السياسي في البلاد بعد منتصف العام 2014 انقسمت أيضًا المؤسسات المالية حيث ظهر مصرف مركزي إضافي في شرق البلاد تتبعه مجموعة من المصارف التجارية ومصرف مركزي في غرب البلاد تتبعه مجموعة من المصارف التجارية ، وأسهم المصرفان في توفير الموارد المالية للتشكيلات المسلحة التي يقع ضمن مناطق سيطرتها .
التمويل غير الرسمي ( عبر الأنشطة غير القانونية ) حيث بدأت الإيرادات العامة في الانخفاض منذ العام 2014 ، وذلك بسبب انخفاض الكميات المنتجة والمصدرة من النفط بعد أزمة إغلاق الموانئ النفطية أواخر العام 2013 وكذلك انخفاض أسعار النفط ، حيث انخفضت الإيرادات العامة من 51.7 مليار دينار في عام 2013 إلى 19.9 مليار دينار في العام 2014 لتصل إلى أدني مستوى لها عام 2016 لتبلغ 6.6 مليار دينار قبل أن ترتفع من جديد في عام 2017 ، ولكنها لم تصل إلى مستوياتها في العام 2012 ، وأدى انخفاض الإيرادات العامة إلى قيام الحكومة بخفض النفقات العامة لكي تتحكم في عجز الميزانية ، فقد انخفض إجمالي النفقات العامة من 15.6 مليار دينار في العام 2013 إلى 44.2 في العام 2014 إلى أن وصلت لأدنى قيمة لها في العام 2016 حيث بلغت 30.4 مليار دينار ، ولقد انعكس هذا الانخفاض في النفقات العامة على الإنفاق على القطاع الأمني ، حيث انخفض من 9.8 مليار دينار في عام 2013 إلى 4.9 في عام 2015 ليصل إلى أدنى قيمة له في العام 2016 ، 2.6 مليار .
كما أدى هذا الانخفاض في الإنفاق الرسمي على القطاع الأمني والتشكيلات المنضوية تحته إلى لجوء الكثير من هذه التشكيلات إلى الانخراط في أعمال غير قانونية من أجل المحافظة على وجودها العسكري واستمرار قدرتها على تجنيد الأفراد ، وفيما يلي أهم المصادر والأنشطة غير القانونية التي اعتمدت عليها بعض التشكيلات لتعويض الانخفاض في تدفق الموارد المالية الرسمية من الحكومة .