من يعبث بسوق الطاقة العالمي

مَــقالْ / د.أحمد محمد الشحاتي

هناك نوع شديد من الفوضى يمر بها سوق الطاقة العالمي. للمفارقة لا تعود هذه الفوضى لنقص في موارد الطاقة، بل حقيقة ترجع إلى ممارسات سلوكية يكتنفها المصالح المتضاربة والتدخلات السياسية والمنافسات التجارية وضبابية الرؤية العلمية. السؤال هنا هل توجد يد خفية تعبث بموازين سوق الطاقة أم إن الفوضى ناتجة عن التطور العشوائي لهذه العوامل مجتمعة. بالتأكيد سينبري الفريق المعارض لوجود “نظرية المؤامرة” للدفاع عن هذه التطورات بأنها تأتي في سياق حركة السوق بدليل إن معظم الدول التي هي محل أتهام بالتخطيط لمؤامرة ما مثل الولايات المتحدة هي من تكتوي بآثار هذه الفوضى وإن أكثر المستفيدين من الاضطرابات هم أطراف لا قبل لهم بتصميم عدا عن تنفيذ أي مخطط تآمري. هذا يطرح تحدي حقيقي لإيجاد العابث الحقيقي في سوق الطاقة.
انفجار التضخم وخروجه عن السيطرة مع احتمال انزلاق العالم بأسره في موجة كساد عاتية وما سينتج عنها من انعكاسات اجتماعية خطيرة مثل انتشار الفقر وتوسع المجاعة وربما انتشار الحروب هي عوامل ستنتج عن الفوضى في سوق الطاقة العالمي. وتحذر وكالة الطاقة العالمية من أن أزمة الطاقة القادمة ستكون أكثر وطأة من تلك التي واجهت العالم في السبعينات وسيمتد أثرها لفترة أطول من الزمن وستشمل مصادر الطاقة في مجملها وليس النفط فقط كأزمة السبعينات بما فيها الكهرباء والغاز الطبيعي.
المسألة هنا أن النظريات العلمية والعملية المتعلقة بتحليل واتجاهات أسواق الطاقة تقف عاجزة عن التنبؤ بالاحتمالات المستقبلية لهذه الفوضى. هناك جانبين لأي تحليل منطقي لتوازن السوق الجانب الأول هو تطورات الطلب ونوعيته أما الجانب الثاني فهو احتمالات العرض. بالنسبة للجانب الأول وهو تطور الطلب على الطاقة فهناك نظريات قدرة التنوع في مصادر الطاقة والتي تؤثر أساسا على المرونة السعرية ونظرية تحطم الطلب والتي تقول بأن النمو في الناتج الاقتصادي لا يمكن دعمه ألا بمستوى معين من التكلفة وعلى سبيل المثال (120 دولار/للبرميل في سوق النفط). أما من جانب العرض فهناك نظريات الإنتاج المرتبط بالتكلفة أو الاستثمار المرتبط بربحية الصناعة وبالتكنولوجيا. من ناحية الإنتاج فأن النظريات الكلاسيكية تعالج مسألة نضوب مصادر الطاقة الرخيصة مقابل تكاليف المصادر المتجددة، وللتسهيل فأن هذ يعني في واقعنا اليوم هو الإجابة عن سؤال هل يمكن للنفط والوقود الاحفوري بصفة عامة ان يعمل كجسر يوصل البشرية للحصول على احتياجاتها من الطاقة بنفس التكلفة. إجابة هذا السؤال ستنقلنا لبحث موضوع الاستثمار في توفير مصادر الطاقة فربحية انتاج المصدر المستقبلية (العائد – التكلفة) هي العامل الذي يحدد استمرار الاستثمار فيه اما للحفاظ على نفس مستويات الإنتاج او تنميته. تثبيت الربحية هي العامل الأساسي لتفادي المخاطرة بالاستثمار وهو ما ساهم بشكل جوهري مثلا في تطوير صناعة الغاز الطبيعي عن طريق العقود طويلة المدى وشروط التسليم الاجباري الموجودة بها، بالطبع فأن هذا الشرط لا ينطبق إلا على مصدر تكلفة انتاجه تكون أقل أو مساوية من المنافس الحالي وفي حالتنا هذه فأن تكلفة انتاج الغاز هي قريبة جدا من تكلفة انتاج النفط نظرا لترابط عمليات انتاجهما.
هناك ضبابية مفروضة سياسيا على مشهد سوق الطاقة تتحدى جميع النظريات السابقة. قد يستخلص من هذه الضبابية إن هناك جهات سياسية بعينها تهدف إلى أن تقود الاستثمار تجاه مصدر معين وهو الاحتمال الأكثر ترجيحا. يحتاج على سبيل المثال قطاع النفط والغاز إلى استثمار ما لا يقل عن 500 مليار دولار للحفاظ على مستوى الإنتاج الحالي ألا أن الاستثمار في قطاع النفط على مدى الخمس سنوات السابقة لم يتجاوز في المعدل 350 مليار دولار معظمها ذهب إلى الاستثمار في المناطق الأكثر تكلفة والأقل انتاجا مثل استثمارات النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة. وبينما لا يوجد موانع إنتاجية جسيمة في دول مثل روسيا وإيران وفنزويلا ألا أن أنظمة العقوبات الاقتصادية المحفزة سياسيا تضع قيودا على انتاج هذه الدول سواء من ناحية التشغيل أو الاستثمار. الحالة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية هي أكثر الحالات استغرابا، فبينما يتم الضغط على الدول الاوربية التي ليس لها خيارات متعددة بعيدا عن الخيار الروسي خصوصا في الغاز الطبيعي لمقاطعته تتزايد الضغوط الاقتصادية التضخمية فيها. الحل النظري هو أما سقوط كبير للنظام الاقتصادي الأوربي بما فيه الاقتصاد التركي وتخلفه أمام القوى الاقتصادية الأخرى، أو النظر في احتمالية اجبار روسيا ربما عسكريا على مواصلة الامداد وهو ما يهدد بقيام حرب كبيرة في حالة الرفض الروسي.
هناك احتمال إن هناك من يريد أن يعالج الأزمة عن طريق الصدمة وهو أسلوب أستعمل كثيرا في أدبيات السياسة الدولية في حالات معروفة. وفي هذه الحالة فهذا الطرف هو من يعبث بسوق الطاقة. للأسف فأن منظمات دولية مثل وكالة الطاقة الدولية أو حتى الشركات الدولية تتوقف عاجزة عن تحديد مثل هذا الطرف والذي يبدو بوضوح أنه يدفع العالم نحو الصدمة في سوق الطاقة. يمكن أن يكون الهدف أن تسرع هذه الصدمة من وتيرة التحول الطاقوي للابتعاد عن انتاج واستهلاك الوقود الاحفوري بتعظيم الاستثمارات في مجالات الطاقات المتجددة. المشكلة هنا إن اليد الخفية التي أشار إليها آدم سميث في أدبيات مؤلفه “ثروة الأمم” والتي تتحكم في الآليات الاقتصادية تحول توظيف الاستثمار الذي يتم منعه عن تطوير الوقود الاحفوري إلى بدائل أخرى بعيدة تماما عن سوق الطاقة مثل الاستثمار في تويتر. النتيجة إن البشرية ستعيش مع أكثر تويتات ولكن مع أقل وحدات للطاقة.

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

القائمة