هل يستطيع العرب ادارة شؤون النفط بمختلف قطاعاته لمصلحتهم بأنفسهم.. وهل كان النفط نعمة او نقمة عليهم في غياب سيادتهم السياسية والاقتصادية؟

د. عبدالحي زلوم

طلب العديد من الاخوة القراء ان اكتب عن موضوع هذا المقال اعلاه.

بداية يجب التنويه  الى هذه الحقائق الهامة  :

النفط هو مادة استراتيجية تمثل الحياة أو الموت للحضارة الغربية بكل تفرعاتها الاقتصادية والامنية بل والاجتماعية ، و سيبقى كذلك حتى نضوبه خلال هذا القرن.

كما رأت الولايات المتحدة ومن قبلها بريطانيا ان حقول النفط تحت أراضي الغير  وخصوصا العربية كانت خطئا جيولوجيا وان اصحابه الحقيقيون هم من اكتشفوه واستثمروا المليارات لاستخراجه وحضارتهم هي الاكثر حاجة واستعمالا له .

لذلك هم من قسّم الوطن  العربي الواحد الى كيانات ، وهم من اختار من القبائل والعوائل  من يدير تلك الكيانات ، وهم من حدد الدور الوظيفي  لكل كيان ،  وهم من بنى مؤسسة الفساد والافساد ‏‏ليكون الفساد هو الحليف الاقوى والمؤتمن لتنفيذ وظائف كل كيان.

ولبيان دقة وصحة ما ذكرت اقتبس  ما قاله  وزير الطاقة الأمريكي رتشاردسون سنة 1999:

” لقد كان البترول محور القرارات الأمنية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال القرن العشرين، والنفط كان وراء تقسيمات الشرق الأوسط إلى دويلات بعد الحرب العالمية الأولى “.

اذن زرع الكيانات الوظيفية  ومنها كيانات المنظومة العربية  وتوأمها الكيان الصهيوني هي في حقيقتها منظومة واحدة مطبّعة منذ ولادتها  عن طريق وظائفها المتكاملة لخدمة المستعمر خارج الاوطان ، وما  التطبيع اليوم الا تحصيل حاصل لن يتغير الا بتغيير وظائف تلك الكيانات  بل والحدود التي فُرِضت على شعوبها.  وبذلك فإن معاناة الشعب الفلسطيني ومعاناة الشعوب العربية الاخرى ما هي الا  نتيجة للسياسات الغربية للهيمنة على مصادر الثروة الطبيعية العربية واهمها النفط وبترودولاراته. بذلك كان النفط نقمة على شعوبنا حتى على الكيانات النفطية نفسها.

*

هل نستطيع ادارة قطاع النفط بأنفسنا ؟

الجواب نعم ولكن… ‏

يوجد داخل الوطن العربي وخارجه من العرب ممن يمتلكون كفاءات على مستوى دولي في كافة قطاعات النفط والصناعات البتروكيماوية وربما انا احدهم ، ولربما ذكري لخبرتي هنا قد تمثل جزءا من الجواب على موضوع المقال ، حيث عايشت  61 سنة اي 42% من عصر النفط الحديث (منذ سنة 1859) عملت خلالها في الولايات المتحدة واوروبا وافريقيا والوطن العربي والهند والصين. لكن الغرب كان دائما ينتقص من قدرات الشعب العربي ليفقد ثقته بنفسه في كل القطاعات. أذْكُر كمثل ان حجة دول  العدوان الثلاثي على مصر كانت عدم قدرة المصريين على ادارة القناة بعد التأميم ‏مما يُعرّض التجارة العالمية للخطر. ودعني اورد بعض الامثلة من تجاربي:

كان أول دخولي عالم النفط ‏في إيطاليا‏ عام 1959 ‏اثناء تصميم اول مصفاة للبترول في الاردن من احدى شركات مجموعة ENI Group  الحكومية  الوليدة حيث كان مشروع الاردن  ايضاً اول مشروع  من نوعه يتم تصميمه في ايطاليا. ‏قال لي أحد الخبراء الأمريكيين آنذاك مستهزءا :” يجب على الطليان أن يهتموا في تصنيع المعكرونة لا عالم النفط “.اليوم مجموعة شركات ENI هي احدى المجموعات العملاقة العالمية وهي  على سبيل المثال  من اكتشفت وطورت حديثا (حقل ظهر ) المصري وهو اكبر حقل للغاز في شرق البحر الابيض المتوسط.

في الستينات ‏تعاقد رئيس مجلس إدارة ENI ‏مع الاتحاد السوفييتي لمبادلة النفط مقابل بناء ENI  الأنابيب داخل الاتحاد السوفييتي. ‏طلبت الولايات المتحدة إلغاء الصفقة لمنع إدخال النفوذ السوفييتي إلى دول حلف الناتو ولما رفض رئيس مجلس الإدارة سقطت طائرته وهو في رحلة داخلية وسافر مدير مركز ال CIA في السفارة الامريكية بروما فجأة ‏إلى الولايات المتحدة بعد ظهر اليوم نفسه.

كان مشروع شركة البترول الوطنية الكويتية في تصنيع وتحويل المشتقات النفطية الثقيلة عن طريق تكنولوجيات تستعمل لاول مرة في العالم الى منتوجات نفطية خفيفة وعالية الجودة. وكانت تحتوي على اكبر وحدات لانتاج الهيدروجين في العالم وأول واكبر وحدات للتحطيم الهيدروجيني للمنتجات النفطية الاسفلتية الثقيلة في العالم ، وأكبر وحدات لانتاج الكبريت من الغاز وأكبر الضاغطات للهيدروجين والغاز في العالم آنذاك.  كنت اثناء تصاميم هذا المشروع  في لوس انجلوس كاليفورنيا حيث كانت شركة  FLUOR  هي الشركة الرئيسية  المتعاقدة لهندسة وانشاء المشروع. وكانت هي اكبر شركة من نوعها في الولايات المتحدة. عند تشغيل المشروع في الكويت تم تقسيمه الى  قسمين  احدهما بإدارة امريكي اسمه جيم فيتسمنز  والذي اختار طاقم مهندسيه ومشغليه جميعهم من الامريكيين والانجليز وبعض الجنسيات الغربية الاخرى. وكان مسؤولا عن اربع وحدات. كنت مسؤولا عن 9 وحدات  بما فيها وحدات تحسين البنزين والمنتوجات الاخرى بواسطة المعالجة الهيدروجينية اضافة الى اكبر وحدة في العالم لاستخلاص الكبريت من الغازات بطاقة 800 طن يوميا. قمت باختيار الغالبية العظمى من مهندسين ومشغلين   لقسمي من العرب  حيث قمت بجولة لاختيارهم من منشآت بالعراق ( الدورة )  ، الاردن، سوريا  ( حمص) ، مصر ، وخصوصا مصفاة السويس الاحدث والتي تم قصفها وايقافها في حرب الاستنزاف،  ثم عدن. قام قسمي بتشغيل كافة الوحدات بالوقت المحدد  الا ان القسم الاخر كان متعثراً. بعد شهور من هذا التعثر استدعت وزارة النفط وادارة شركة النفط  الكويتية خبراء من شركتي  GULF  و  BP   وقاموا بدراسة المشاكل وقدموا تقريرهم وكانت توصيتهم بأن اصبح مديراً  للعمليات للمشروع كله. اثناء فترة التعثر كتبت مجلة  Oil And Gas Journal   الامريكية مقالا تنصح فيه دول النفط العرب عدم دخولهم في مجالات هي اكبر منهم. بعد استلامي لادارة العمليات قمت بتحديث وتغيير  الهيكل التنظيمي للمشروع  وحددت الوصف الوظيفي لكل وظيفة مما نتج عنه استغنائي عن خدمات ما يزيد عن 70 خبير امريكي وبريطاني لعدم كفائتهم بما في ذلك جيم فيتسمنز. واصبحت جميع المنشآت تعمل بطاقة 100% خلال 3 شهور  ثم قمنا برفع الطاقة الى  140% بكلفة قليلة. اصبح المشروع مَحَجّاً  للشركات العالمية التي  ترغب في استعمال التكنولوجيا الجديدة. والجدير بالذكر ان وحدة مماثلة للتحطيم الهيدروجيني التي بنيت في الولايات المتحدة قد انفجرت اثناء التشغيل وبقيت المنشآت الكويتية تعمل بانتظام اكثر من 40 سنة.

تقدمت احدى الشركات الفرنسية بعرض فني لتحسين البنزين وكان عرضها الافضل سعراً وفنياً لكني لم اعرف عنها الكثير فذهبت الى فرنسا للتأكد من قدراتها. كانت هي من مجموعة شركات  IFP الحكومية آنذاك وفوجئت بضخامة مركز ابحاثها وبأنها تمتلك 14 شركة في مجالات  النفط المختلفة اضافة الى اكبر جامعة اوروبية  للدراسات العليا ( ماجستير ودكتوراه ) في شؤون النفط.  عند انتهاء زيارتي  اخبرني مرافقي ان المدير العام يرغب بلقائي. في بداية اللقاء قال لي اود ان اؤكد  لك ان لقاءي هذا لا علاقة له بقرار الموافقة او عدمها على عرضنا  ، لكن كما تعرفت علينا وقدراتنا تعرفنا عليك وقدراتك ونحن نود ان نتوسع في الشرق الاوسط ( من ليبيا حتى ايران)  ولو كان لديك رغبة للعمل معنا لادارة هذا القطاع  الهام يمكن ان نتباحث بالموضوع. قلت مازحا : “قد لا تستطيعون ان تتنافسوا مع راتبي وما لدي من ميزات “، فأجاب : “لماذ ا لا تجرب فقد نفاجئك “. وبعد العشاء انتهى اللقاء. بعد سنة اتصلت بهم وقلت هل ما زال عرضكم قائما قالوا نعم. ذهبت يوم خميس سنة 1972 واجتمعنا يوم جمعة  وكان معي عقداً  موقعاً  بنهاية ذلك اليوم بينهم وبين شركتي الاستشارية الجديدة تحت الانشاء.  ‏بقي أن أذكر أنني لم اكن أعرف ولا كلمة بالفرنسية !

كان   مركز  المؤسسة الفرنسية  بضواحي باريس ( Rueil Malmaison ) وكانت الشركة تؤمن لنا مسكناً قريبا في منطقة جميلة اسمها   (ايليزيه دو ) نقضي اجازتنا في الصيف.

في صيف 1974 جائني اتصال من شركة بترول ابوظبي الوطنية ( ادنوك) الوليدة عن طريق احد المواطنين الذين تم تدريبهم في الكويت وطلب مني الحضور لتقديم عرض استشاري من شركتي وهكذا كان. قالوا لي نحن لدينا عرض من شركتي BP و EPEDEX لكننا نرغب بخدمات شركتك لاننا نعرف انجازاتك في الكويت.

كانت ابوظبي انذاك شارعا واحدا وبها فندق واحد ( فندق العين ) وكان 80% تقريبا من سكانها من الهنود.

قمنا بمتابعة الانشاءات والتشغيل وما بعد التشغيل لاول مصفاة نفط في ابوظبي ( مصفاة ام النار ) وقد قمنا باختيار الطاقم الفني 100% من العرب وتم تشغيل المشروع بالوقت المحدد وقمنا نحن بالتشغيل عوضا عن شركة كيلوغ الامريكية( فرع بريطانيا). ثم بعد ذلك قمنا بإضافة مجموعة انابيب نفط وغاز برية وبحرية ومنشأة الغاز السائل في منطقة المَقْطَع لإدارة ام النار ، ثم قمنا بتصميم   Conceptual Design ))  لاول مشروع في الرويس لتكرير وتصدير منتجات النفط المكررة بطاقة 120 الف برميل في اليوم  ( من ثلاثة انواع من النفط انذاك ). وقمنا بتحضير دفتر وشروط العطاء العالمي للمشروع.  أشير هنا انه في ابو ظبي كما في الكويت تمكنا من السيطرة التامة على كافة النواحي الفنية لكن احدى المشاكل كانت  مع الاسف هي التناحر بين الموظفين من الجنسيات العربية المختلفة  تماما كما يحدث لكيانات النظام العربي. كنت ازور باريس مرة كل شهر وفي احدى الزيارات بعد مؤتمر لمنظمة  اوابك (اوبك العربية ) في باريس  قال لي المدير المسؤول عن تنسيق مشاريع الشرق الاوسط ان احد الوزراء العرب )واعلمني اسمه) قال لنا : الم تفكروا بأن زلوم ما كان يمكن ان يصل الى تلك المراكز في الخليج دون ان يكون من الCIA  وانتم اعطيتموه غطاءا فرنسياً رائعاً !  قلت : وما كان جوابكم قال أجبناه لو كان الامر كذلك لاعلما المكتب الثاني ( المخابرات الفرنسية ) بذلك. بقيت نقطة  التناحر والبغضاء بين افراد الامة الواحدة تحيرني لدرجة اني في النصف الاول من الثمانينات درست هذه الظاهرة وكانت عنوانا لرسالة الدكتوراة بعنوان ” السلوك التنظيمي في مجتمعات متعددة الهويات “،  وبدأتُ البحث والتأليف بعد ذلك بموازاة مع اعمالي لمعرفة واقعنا المؤلم حيث كتبت حوالي 15 كتابا بالعربية والانكليزية ترجم بعضها للالمانية.

‏في مطلع القرن الواحد والعشرين دعاني وزير سوداني سابق ورئيس مجلس إدارة إحدى كبريات الشركات السودانية إلى إلقاء محاضرة في نادي نقابة  المهندسين السودانيين وقبلت الدعوة. ‏بعد المحاضرة طلب مني الوزير السابق إمكانية ان أزور مشروع مصفاة نفط جديدة ( بطاقة 100 الف برميل في اليوم ) في اليوم التالي. بعد الزيارة طلبوا مني ان تقدم شركتي عرضا للقيام بأعمال مستشار المشروع ( PMC) في كل  مراحل المشروع ، بدءاً  بالتصاميم ثم الانشاء والتشغيل. والمشروع مملوك من الحكومة السودانية وشركة البترول الوطنية الصينية الحكومية مناصفة  وكانت اكبر شركة في الصين وآسيا انذاك. ‏اضطرني ذلك المشروع للذهاب الى  الصين ثلاث أو أربع مرات بالسنة لعدة سنين. بعد ان راى الصينيون قدراتنا الفنية طلبوا من شركتي بعد ذلك القيام  بالأعمال الاستشارية إلى تطوير الحقل رقم  6  المملوك من شركة النفط الوطنية الصينية العالمية بما في ذلك انبوب نفط بطول 700  كيلومتر!. تم اكمال المشروعين بنجاح ضمن المدة المحددة وضمن الميزانية الموضوعة. ثم طلبوا من شركتي ان توفد مهندسين للعمل في مشروع داخل الصين.

مشكلة العالم العربي بما فيه قطاع النفط تعيين الشخص غير المناسب في  المكان غير المناسب، وكان ذلك يتم وفقا لمنهجية غير بريئة.

‏كان اثنان من الطيارين السوريين المدربين في روسيا على طائرات الميج يعملون مشغلين في قطاع النفط الكويتي بينما كانت طائرات الميج أثناء حرب  1967 ‏في صناديقها لعدم كفاية الطيارين.

جائني مرة ممثل احدى الشركات الكويتية. سألته ان قائداً لهيئة اركان الجيش العربي الاردني يحمل اسما شبيها لاسمه فأجابني ( انا هو ). فوجئت ولم ندخل في التفاصيل !

من المهندسين الذين اخترتهم للعمل في الكويت كان مهندسا يعمل في مصفاة الدورة ببغداد.وارسلت له عقد عمل. بعد فترة ارسل رسالة  اعتذار واعلمني ان الحزب طلب منه عدم الاستقالة لان له مستقبلاً جيداً. فعلا اصبح مديرا للمصفاة ثم مديرا لمؤسسة المصافي والغاز. في أواخر الثمانينيات جاء الى الاردن على رأس  بعثة لمساعدة الاردن في عملية استكشاف النفط. وسأل عني ولم اكن متواجدا ، فعلمت انه قد اصبح الوكيل الاقدم لوزارة النفط العراقية. في سنة 1990 او 1991  عندما ذهبت للعراق اتَصلتُ بوزارة النفط وقلت لهم اريد التحدث مع الوكيل الاقدم عبد المنعم السامرائي فأغلقوا الهاتف في وجهي ،كررت ذلك مرتين وكرروا اغلاق الهاتف مرتين ، واخيرا سألت موظف الاستقبال في الفندق فقال لي الا تعرف  انه أُعدم!).

وهنا أشير الى مثال آخر على ما يصيب قطاع النفط العربي من خلل.

بعد اجتماع مع رئيس مجلس ادارة مؤسسة النفط الليبية في منتصف السبعينات لعمل استشاري كان رئيس المؤسسة مهندساً مختصاً عمل سابقا مع احدى الشركات الامريكية ، وطلب دراسة مني وعندما ذهبت بعد شهر لاقدمها فوجئت بأن اللجان الشعبية   قد عزلته واختارت مهندساً من غير اصحاب الاختصاص. لم يكن يفهم حرفا من الدراسة المطلوبة. في علم الادارة  لا يحتاج الامر لتخريب اي مؤسسة اكثر من وضع جاهل على رأسها.

والخلاصة:

يوجد في العالم العربي كفاءات بمستوى عالمي في كافة التخصصات في قطاع النفط. ويمكن ان وجدت الارادة ادارة هذا القطاع بأيدي عربية بالكامل علماً بأن حتى الشركات النفطية العملاقة الامريكية وغيرها يستعينون بشركات خدمات متخصصة لعدم حتمية  وجود هذه التخصصات داخل مؤسساتهم. المشكلة هي نفس مشكلة النظام الرسمي العربي الذي لو كانت له الارادة لاصبح قوة عالمية تملك قوة دمار شامل تستطيع ان تطيح بالنظام الغربي بأكمله. لكن بعد غسيل الدماغ علموا اللبناني انه فينيقيا والمصري انه فرعونيا  ، والاردني انه عمورياً ، والعراقي والسوري انهم سومريون..  الخ  ،  فأصبحت الفرقة وعدم التجانس في العمل المؤسسي المشترك تحصيل حاصل. ولا يمكن لقطاع النفط ان (يعلن استقلاله)  لمصلحة الشعوب  دون ان تصبح الدول المنتجة صاحبة سيادتها السياسية الحقيقية.فالسياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

المزيد من الأخبار

القائمة