بعد 15 سنة لن نجد من يشتري منا النفط أين الحقيقة؟

مَـــقالْ / د.محمد أحمد الشحاتي

ما أبعاد هذه التصريحات وما هو تأثيرها على الاقتصاد الليبي وصناعة النفط الوطنية

توالت عدة تصريحات رسمية معلنة من شخصيات سياسية ليبية في مواقع سياسية وإدارية عليا تفيد بأن ليبيا لن تجد من يشتري منها النفط بعد 15 سنة.
بغض النظر عن الدوافع التي حفزت هؤلاء السياسيون لإصدار هذه التصريحات أود في هذا المقال أن اختبر صحة هذه التصريحات وإيضاح أثرها على الاقتصاد الليبي وصناعة النفط الوطنية.
لا بد من التشديد في البداية أن هذا المقال لا يناقش قضية التحول العالمي في مجال مصادر الطاقة وهي قضية تحتاج إلى مساحة كبيرة من النقاش، ولكنه يناقش تحديدا الموقف الليبي من هذه القضية وفقا لسيناريوهات منشورة لشركة بريتش بتروليوم. اختياري لتقديرات شركة بريتش بتروليوم تحديدا جاء لأنها أكثر السيناريوهات تشاؤمية للطلب على النفط مقارنة بتقديرات أخرى مثل أوبك أو وكالة الطاقة العالمية أو حتى شركة اكسون الامريكية. هذا تلقائيا سيحيد الآراء المتشائمة التي تشير إلى ما يسمى بـ “نهاية عصر النفط”.
دعوني أبدأ بتقديرات شركة بريتش بتروليوم. كما تلاحظون في الرسمين المرفقين فأن الشركة لديها تقديران الأول هو عن الطلب على النفط والثاني هو العرض من النفط.
التقدير الأول كما هو موضح في الرسم الأول عن الطلب على النفط يشمل 3 سيناريوهات. في السيناريو الأول المعنون (بدون تغيير Business as usual) والذي تقول الشركة عنه أن سياسات الطاقة العالمية لن يجري عليها ستستمر بالطريقة العادية بدون أي تغيير نظرا لضغوط الاقتصاديات وعدم الاستجابة الكفؤة للتهديد المناخي. السيناريو الثاني المعنون بالسيناريو السريع تفترض شركة بريتش بتروليوم أن الطلب على النفط سيتسارع في الهبوط نتيجة لسياسات حكومية متشددة ضد استعمال النفط منها تسريع التحول إلى الكهربة في النقل وفرض ضرائب متصاعدة عالمية على استهلاك الوقود الاحفوري، أما السيناريو الصفري فيشير إلى اعتماد الحكومات سياسة حظر شامل لتصنيع الآليات التي تستعمل النفط بما فيها السيارات والآليات الثقيلة التي تستخدم البنزين أو الديزل.
التقدير الثاني كما هو موضح في الرسم للعرض من النفط يشمل 2 سيناريو. سيناريو “لا تغيير” والسيناريو “السريع” هنا لا نحتاج للسيناريو الثالث لأنه لا معنى له لأن النفط لن يتم انتاجه في الأساس. في السيناريو الذي لن تتغير فيه سياسات الطاقة فأن السحب من الاحتياطي العالمي. ستلاحظون الفرق انه في السيناريو السريع سينخفض الإنتاج العالمي وخصوصا من خارج أوبك بصورة أكثر سرعة وهو قد يكون مبدئيا مستغربا حيث من المفروض ان قلة الطلب تعني قلة المسحوب من الاحتياطي وبالتالي ارتفاع العرض ألا أن المقصود هنا أن انخفاض الطلب سيدفع إلى انخفاض السعر وبالتالي تراجع في الإنتاج ومن ثم العرض.
أدعو القارئ هنا أن يركز على المنحنى الأخضر في رسم استهلاك النفط، سيلاحظ أن الطلب على النفط سيتجاوز 100 مليون برميل بقليل، ولكنه سيثبت عند هذا المستوى في سنة 2025 ومن ثم يبدأ في الانخفاض، النقطة التي يبدأ عندها في الانخفاض تسمى ذروة الطلب على النفط، وهي أهم نقطة تحاول التوقعات المختلفة أن تتنبأ بها، أوبك مثلا ووكالة الطاقة الدولية تقولان إن العالم سيصلها في منتصف الثلاثينات “العقد القادم”. هذا ما يستقبله البعض على أساس أنه “انتهاء عصر النفط” وهو مغالطة واضحة. عصر النفط مستمر حتى في أكثر السيناريوهات تشاؤمية إلى ما بعد 2050 كما هو واضح بالمنحنى الأزرق في الرسم.
النقطة الأكثر أهمية هيا أن العرض النفطي سيتناقص أسرع إذا ما تحققت هذه الفرضية التشاؤمية بطريقة ستطرد النفط الأكثر كلفة من السوق خصوصا النفط الصخري في أمريكا مما سيعدل ميزان العرض والطلب على المدى الأطول.
ما تأثير ذلك علينا في ليبيا؟
التحول في مصادر الطاقة بالرغم من كل الجدل حوله وفي السرعة التي سيحدث بها لا يزال اليوم وفقا لأكثر التوقعات تشاؤما معتدل التأثير على النفط كسلعة والتي يتوقع أن تستمر كمصدر رئيسي للطاقة ومصدر لتغذية العديد من الصناعات اللاحقة مثل البتروكيماويات. هذا لا ينفي أن هناك في المستقبل تأثيرا ماليا على منتجي النفط، ولكن في العموم هذا التأثير سيكون منصبا أكثر على منتجي النفط الأكثر كلفة وليبيا تقع في فئة المنتجين الأقل كلفة. وفي ظل وضع دقيق كهذا ستحتاج الدول المنتجة والمصدرة للنفط ضبط ميزانياتها نظرا لأن معدل الربحية في القطاع النفطي قد تنخفض من متوسطات تبلغ 80% إلى 30%. بذلك فأن الصناعة النفطية في حد ذاتها خصوصا في مناطق التكلفة المنخفضة والتي منها ليبيا ستستمر كأكثر الصناعات ربحية بغض النظر عن كم توفر للميزانية الحكومية ويجب على الدولة كمالك للثروة الطبيعية أن تلتزم بالاستثمار فيها.
بالحسابات الدقيقة ووفقا لأكثر التوقعات تشاؤما سيظل النفط الليبي تحت الطلب وذا قيمة اقتصادية، ولكن قضية تسعيره ستكون مرتبكة، فربما لن يحقق نفس العائدات التي حققها في الماضي، ولكن هذا محل جدل كبير لأن نوعية التوازن المستقبلي ستحدد بنمط الاستثمار في قطاع النفط وقطاعات الطاقة البديلة الأخرى.
هنا يجب أثارة النقاط المهمة الآتية:
أولا: أن التصريحات السياسية التي تقول “أننا لن نجد من يشتري منا النفط بعد 15 عاما” هي تصريحات غير دقيقة من ناحية تقنية وفي الحقيقة يجب على من يصرح بها أن يكون له مرجع علمي عليها.
ثانيا: أن هذه التصريحات سينتج عنها آثار جسيمة فيما يتعلق بالاقتصاد، فهي ستدفع المستثمرين الخارجيين لإعادة النظر في مشاريع استثمارهم في ليبيا سواء في قطاع النفط أم القطاعات الأخرى. فعلى سبيل المثال ماذا يدفع مستثمر أن يواصل التفكير في مشروع استثماري يحتاج تغطية تكاليفه أكثر من عشر سنوات حين ستصاب الدولة بالعجز عندما تنتهي مبيعاتها النفط ومصدر دخلها الأساسي.
ثالثا: بالإضافة لانخفاض العائد الاستثماري الحالي ومع التهديد بتوقف المبيعات النفطية فأن هذا سيدفع برؤوس الأموال المحلية للهرب إلى اقتصادات أكثر أمنا وهذا يتعارض مبدئيا مع الفكرة التي تقول إن التهديد بتوقف مبيعات النفط سيجبر رؤوس الأموال المحلية لتنويع الاقتصاد.
رابعا: على الحكومة أن تتحوط من مخاطر انخفاض أسعار النفط نتيجة إمكانية هبوط الطلب عليه وذلك بترشيد الانفاق الحكومي وتشجيع القطاع الخاص وفتح الاقتصاد.
خامسا: هناك خطورة متزايدة في استدعاء مشاركة اجنبية أوسع في قطاع النفط نتيجة توجه التفكير في بيع الاحتياطي الآن تحت الاعتقاد بأننا لن نستطيع بيع نفطنا في المستقبل وهو ما سمعته في أحد المداخلات عن هذه القضية.
سادسا: أن التحول محليا نحو مصادر الطاقة المتجددة يجب أن تكون سياسة منفصلة تماما عن تقرير السياسة النفطية سواء من ناحية توظيف الموارد أو فعالية التحول. وبالرغم من ترديد الكثير من الأفكار الخيالية غير قابلة للتحقيق مثل أن تكون ليبيا مصدرا لتصدير الطاقة الشمسية وما ادراك نحو أوربا ألا أن التفكير العقلاني في تحول تدريجي نحو مصادر بديلة كفؤة في مواقع معينة لا يجب أن يتوقف كسياسة رشيدة في مجال الطاقة.
في الخلاصة أدعو إلى التفكير المؤسسي العميق لتقرير السياسة المثلى في هذه القضية، ويجب ملاحظة أن جميع الدول المنتجة للنفط تتبع سياسة استثمارية إعلامية اقتصادية متوازنة تهدف إلى تعظيم الاستفادة من الثروة النفطية بصورة شاملة مع تدريج مرحلي أمر فيما أعتقد نفتقده بالكامل.

الأكثر قراءة

مساحة إعلانية

القائمة