مَـــقالْ / د. محمد أحمد الشحاتي
تبدأ الدول المنتجة والمصدرة للنفط ابتداء من هذا الشهر (أكتوبر) من كل سنة في عملية اقتصادية حيوية تتمثل في تقدير سعر النفط للسنة التالية. جرت العادة أن تبدأ هذه العملية بعد إصدار صندوق النقد الدولي لتوقعاته السنوية هذا الشهر عن حالة الاقتصاد العالمي بما فيها توقعاته عن اتجاهات سعر السلع الأولية بما فيها النفط لتقدير حجم الضغوط التضخمية وتأثير ذلك على النمو الاقتصادي العالمي والإقليمي.
في الرسم تجدون سلسلة توقعات صندوق النقد الدولي عنما يعرف بأنه السعر التعادلي للنفط للموازنة الحكومية Fiscal breakeven oil price لمجموعة من الدول النفطية المختارة. هذه السلاسل الزمنية متوفرة على صفحة FRED وهي صفحة الدراسات الاقتصادية للمصرف الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة الامريكية لكل دولة على حدة في حال أن القارئ يحتاج لها.
تستعمل أجهزة التخطيط في الدول المنتجة للنفط هذه المعلومات لوضع سياساتها في الانفاق الحكومي، والسعر التعادلي هنا وفقا لتعريف صندوق النقد الدولي هو الذي يحقق (صفر) توازني بين الإيرادات والمصروفات أي لا يوجد فائض أو عجز في حال تحقق هذا السعر. في المنهجية فأن الأرقام هي نتيجة معادلة رياضية تحسب معدل الإنتاج اليومي المتوقع وسعر صرف العملة المحلية ومستويات التضخم وتوقع الانفاق الحكومي من البيانات التاريخية.
بمراجعة مدققة للبيانات التي يصدرها الصندوق فأن حسابات الدول في معظمها تقترب من الصحة باستثناء ليبيا والتي تشير الأرقام فيها إلى خطأ منهجي كبير من حيث مقارنة الأرقام بالتقديرات المنشورة من قبل الأجهزة العامة في ليبيا حول الموازنة وسعر الصرف وتقديرات الإنتاج النفطي. وعلى سبيل المثال فأن التقدير الموضوع لسنة 2022 القادمة فهو لسعر 48.95 دولار للبرميل وهو سعر يقترب كثيرا من وجهة نظر البرلمان حول الميزانية. هذا يشير إلى أن مستوى الانفاق الحكومي المتوقع هو أقل بكثير مما تم طلبه من الحكومة الليبية. عند هذا السعر فأن الدخل المتوقع أخذا في الاعتبار أن الإنتاج اليومي المتوقع (وهو توقع محافظ) هو مليون برميل يوميا سيكون في حدود 80 مليار دينار ليبي بسعر صرف 4.5 دينار/دولار. وحيث أن الحكومة قامت بطلب عدة موازنات تبدأ من 93 وتنتهي بـ 111 مليار فأننا سنختار 102 مليار دينار كتقدير وهذا سيتطلب سعر تعادلي يبلغ 62.5 دولار للبرميل.
في العملية التخطيطية لوضع تقدير لسعر تعادلي للنفط للسنة القادمة سواء كان المخطط يعمل ضمن إطار شركة أو دولة فأنه يأخذ في اعتباره اشتراطات أساسية لتكون الموازنة فعالة ويتجنب الوقوع في العجز المالي وهذه الاشتراطات هي:
أولا: عدم المبالغة في تقدير الإنتاج والالتزام بالمعدلات الأساسية التي تشير إليها مستويات الاستثمار الحالي في الصناعة النفطية.
ثانيا: تحقيق فائض أفضل بكثير من الوقوع في العجز.
ثالثا: وضوح رؤية استخدامات الفائض من ناحية إعادة استثماره أو توزيعه، وعلى مستوى الدولة فأن الفائض يوجه إلى ما يعرف صندوق احتياطات الاجيال القادمة والذي يجب أن يبقى محميا ومحصنا تشريعيا بقوة من حيث كيفية التصرف بموجوداته ووقت التصرف فيها (مثلا بعد استنفاذ كمية معينة من الاحتياطات النفطية أو هبوط سعر النفط لمستويات منخفضة لفترات طويلة).
رابعا: التحفظ في المصروفات لتفادي التشجيع على الصرف الإضافي الذي قد يعتبر أحيانا هدرا للموارد
خامسا: اعتماد السيناريو الأكثر تحفظا لمسار الأسعار النفطية في السنة القادمة وعدم الانجرار للطفرات في السوق والتي قد تنتكس لسبب أو أخر.
في السنوات بداية من 2012 اعتمدت الحكومات الليبية المتوالية أسعار نفطية مرتفعة كأساس للموازنة الحكومية لتبرير مزيد من الصرف على أوجه تلك الموازنات. وبمقارنة هذا الاتجاه مع بعض الدول النفطية الأخرى فأن دولة مثل الجزائر أو بعض دول الخليج فقد حافظوا على المنهج المتحفظ في تقدير سعر النفط في الموازنة العمومية. بالطبع كان هناك صعوبات استثنائية تمثلت في فترات من الاغلاق النفطي ومصاعب الصيانة وتأثر المنشآت النفطية بالنزاع المسلح وغياب الكهرباء كلها أدت إلى انخفاض الدخل بنسب كبيرة جدا تم تعويضها في جزء كبير منها بالاحتياطات المالية الموجودة ورغم ذلك فأن معدلات المديونية الحالية نتيجة العجز الحكومي هي كبيرة جدا مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي للدولة.
الكثير من الدول النفطية بدأت تضع توقعاتها لسعر النفط العام القادم. هناك صراع كبير بين السلطات التنفيذية والتشريعية في تلك الدول حول هذا التقدير. ببساطة فأن السلطة التشريعية هي المسئولة من ناحية قانونية واخلاقية عن مستوى الانفاق الحكومي. أي تقدير متحفظ قد يؤدي إلى فائض في الميزانية، ولكن هذا الفائض سيكون محرما على السلطة التنفيذية أن تستفيد منه. في دولة الكويت على سبيل المثال الفوائض تتوجه إلى صندوق الأجيال القادمة والسلطة التنفيذية تحاول جاهدة أن تمنع هذا التوجه منذ البداية حيث إن الأموال ستتجمد في حوافظ استثمارية لا تستطيع السلطة الحالية الاستفادة منها. المشكلة وقد تتطور هنا إلى أزمة تقود إلى العجز المالي هي أن تقوم السلطة التنفيذية بتضخيم سعر النفط أو الإنتاج النفطي. الاتجاه الغالب في معظم الدول أو الشركات النفطية حاليا هو تقدير سعر يتراوح حول 60 دولار للبرميل. هذا مبدئيا يعني بسعر الصرف الحالي 4.5 دينار/دولار 98 مليار دينار لسنة 2022 لمعدل إنتاج مليون برميل يوميا.